رحيل كابوس الأردن الأكبر .. كيف تخطط عمّان لمواجهة نتنياهو في عصر بايدن؟
رحيل كابوس الأردن الأكبر .. كيف تخطط عمّان لمواجهة نتنياهو في عصر بايدن؟
زاد الاردن الاخباري -
في 23 مارس/آذار المنصرم، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقطع دعائي قائلا بابتسامة عريضة: "لديّ بشرى كبيرة لمواطني إسرائيل المسلمين"، وسرعان ما أشار بسبابته إلى خارطة كبيرة، وتحديدا إلى المسافة بين "تل أبيب" ومكة المكرمة، مواصلا حديثه لمَن حمل لهم البشرى: "لديكم حلم بالطيران المباشر من تل أبيب إلى مكة.. دون محطات توقف، دون وسطاء، دون أسعار باهظة.. والحلم سيتحقق".
كان فلسطينيو 48 هُم الذين استهدفهم السياسي الأهم في إسرائيل بدهاء، بينما يخوض معركته الانتخابية الرابعة في أقل من عامين. فقد تابعوا الحدث الرئيس في نشرات أخبار يوم 11 مارس/آذار، التي ركَّزت على خبر فشل نتنياهو نفسه في السفر إلى العاصمة الإماراتية "أبو ظبي" ذلك اليوم. عُدَّ ذلك إحباطا لخطط نتنياهو، حيث سعى الرجل لأن يُتِم أول زيارة رسمية له إلى أبو ظبي قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات الإسرائيلية، مُستعرِضا انتصاره السياسي بتوقيع اتفاق التطبيع التاريخي بين إسرائيل والإمارات.
كانت المفاجأة الأكبر هي أن مَن يقف وراء تعطيل رحلة نتنياهو التاريخية إلى الإمارات هو الأردن، الذي رفض السماح بمرور طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي عبر مجاله الجوي، حيث أرادت عمَّان، التي تدهورت علاقتها بنتنياهو منذ سنوات عدة، تلقين "بيبي" درسا قاسيا، وإرسال رسالة واضحة إلى حليف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب؛ علَّه يتوقَّف عن سياسته المُفضية إلى تهميش الأردن.
أمّا عن السبب الظاهر لموقف الأردن، فكان على الأغلب تغيير إسرائيل لبرنامج زيارة كان مُقرَّرا أن يقوم بها ولي العهد الأردني الأمير الحسين بن عبد الله إلى الحرم القدسي في القدس قبل ذلك بأيام. ففي اللحظة الأخيرة، وبذريعة حمل الأمير أسلحة أكثر مما هو مُتفَّق عليه، غيَّرت إسرائيل برنامج الزيارة، وهو ما اعتبره الأردن مساسا خطيرا بدوره التاريخي في القدس المهدَّد بسبب استمرار التطبيع العربي الإسرائيلي.
العاهل الأردني الملك"عبد الله الثاني" (يسارا) ورئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"
بدا واضحا أن المسألة ليست محض خلاف إسرائيلي أردني حول تفاصيل الزيارة. فالأردن، الأكثر تضرُّرا بسبب التوترات والصراعات الإقليمية أثناء سنوات رئاسة ترامب الأربع، يُصِرُّ الآن على التحرُّك لحماية مصالحه الحيوية، وهو بصدد وضع حدٍّ للتحرُّكات التي شكَّلت تحديا كبيرا لاستقراره الداخلي ولسياسته الخارجية، وحتى لكبريائه الإقليمي. وترتبط هذه السياسة الحاسمة جزئيا فيما يبدو بوصول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، وإعلانها التمسُّك بحل الدولتين، والتشبُّث بالشراكة التاريخية مع الأردن على حد قولها، وهو توجُّه ترى فيه عمَّان فرصة لوقف عنجهية نتنياهو، والثأر مما لحق بالأردن من تهميش سياسي وتهديدات أمنية وتعطيل مُتعمَّد لمصالحه الحيوية المرتبطة بمسار الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
لم يُفلت الأردن من موجة الاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة أواخر العام 2010، لكن ما مَيَّزَ احتجاجاته الهادئة نسبيا أنها لم تُفضِ إلى تحوُّل جذري أو صراع أهلي كما جرى لبعض جيرانه، حيث استوعبها النظام الملكي بإصلاحات تُلبِّي ما خرج آلاف الأردنيين للمطالبة به: تغيير حكومي وإجراءات لحلحلة الأزمة الاقتصادية في البلاد. وبالمثل، كانت موجة الاحتجاجات الثانية التي اندلعت عام 2018 بسبب الضرائب، وعزَّزتها في الحقيقة برودة العلاقات بين عمَّان وأشقائها في الخليج.
كان الأردن قد اتخذ مواقف عدة لم توافق توجُّهات التحالف السعودي الإماراتي المصطف تماما مع إدارة ترامب آنذاك، فلم يُظهِر الأردن -مثله مثل مصر- تأييدا حاسما لسياسات السعودية في حربها باليمن، واتخذ موقفا حياديا من الأزمة الخليجية مع قطر، ورفض تأييد خطة ترامب للسلام المعروفة باسم "صفقة القرن"، كما ظلَّ رافضا للسياسات الإسرائيلية بضم أراضي الضفة الغربية فعليا. وعلى إثر مواقف عمَّان المستقلة، فتر الالتزام الخليجي تجاه تقديم المساعدات المالية المعتادة للأردن، فالمساعدات التي قدَّمها مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية في ديسمبر/كانون الأول من العام 2011، والمُقدَّرة بـ 2.5 مليار دولار، لم تُجدَّد حين انتهت صلاحيتها في الشهر ذاته من العام 2016، ولم تُعَدْ إلا في يونيو/حزيران عام 2018، أي بعد أسبوعين فقط من الاحتجاجات التي أعادت الاهتمام الخليجي بحفظ الاستقرار في الأردن، ودفعت الطرفَيْن لتجاوز خلافاتهما الخارجية.
تشبَّث
الأردن بمواقفه السياسية خلال السنوات الماضية، لكن معاناته الاقتصادية وعجز الميزانية الحكومية البالغ 3 مليارات دولار (في ميزانية إجمالية قيمتها 11 مليار دولار) دفعته بعد العام 2019 للإقدام على بعض التغييرات المحدودة في إستراتيجيته بهدف تخفيف التوتر وكسب دعم
دول الخليج. كان أبرز تلك القرارات حلُّ جماعة الإخوان المسلمين "لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية" في يوليو/تموز 2020، وهو القرار الذي تبعه مباشرة إعادة تنشيط صندوق الاستثمار السعودي الأردني الخامل منذ إنشائه في 2017.
على الرغم مما سبق، ظلَّت المعضلة الأساسية لعمَّان هي تدهور علاقتها بالولايات المتحدة، فتلك العلاقات التي بدأت قبل سبعين عاما وصلت إلى أسوأ حالاتها للأردن أثناء رئاسة ترامب، حيث مُنيت فيها الشراكة الثنائية العريقة بتوتر وانعدام ثقة غير مسبوقين. وقد بدأ التوتر منذ المحاولات الأولى للعاهل الأرني التعرُّف على الرئيس
ترامب في مستهل ولايته وإدارته التي لم تكن مألوفة بالنسبة لعمَّان، ليواجه سياسة خارجية أميركية غير مألوفة ضربت بعرض الحائط خطوطا حمراء عديدة تتعلَّق بالقضية الفلسطينية وبدور عمَّان الإقليمي. على سبيل المثال، بعد يوم واحد من اللقاء الأول الذي جمع
الملك عبد الله بالرئيس
ترامب في 2 فبراير/شباط عام 2017، أعلنت إدارة
ترامب بأن المستوطنات
الإسرائيلية في الضفة الغربية "ليست عقبة في طريق السلام". خلال السنوات الأربع اللاحقة، ظلَّ البرود بين عمَّان وواشنطن على حاله، ولم تُفلح خمسة لقاءات مباشرة بين
الملك عبد الله والرئيس
ترامب في إصلاح ما أفسدته مغامرات
ترامب مع الإسرائيليين وحلفائه الخليجيين.
بيد أنه يمكن القول إن فترة البرود الطويلة بين الإدارة الأميركية وملك
الأردن لم تُحدِث انقلابا جوهريا في علاقات البلدين الإستراتيجية، فعلى الرغم من أن
ترامب حاول خفض حزمة المساعدات السنوية إلى
الأردن البالغة 1.28 مليار دولار بنسبة 30% (محاولة منعها الكونغرس الأميركي)، فإن الولايات المتحدة واصلت منح
الأردن حصصه من المساعدات العسكرية والاقتصادية، حيث حصلت عمَّان على مساعدات بلغت 1.5 مليار دولار، منها 1.082 مليار دولار في صورة مساعدات اقتصادية عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، و425 مليون دولار مساعدات عسكرية. كما تعهَّدت الولايات المتحدة عام 2018، بموجب مذكرة تفاهم موقَّعة في العام نفسه، بمبلغ 6.375 مليار دولار للأردن على مدار خمس سنوات، وحافظ
الأردن كذلك على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وهي الأولى من نوعها بين
واشنطن ودولة عربية.
دشَّن
ترامب صفقة القرن المُثيرة للجدل ورعاها طوال سنوات ولايته، مُتسبِّبا في توتُّر علاقات بلاده بعمَّان جراء ما صاحب الصفقة من نقل
السفارة الأميركية إلى تل أبيب وقطع
واشنطن لتمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل
اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). بيد أن المُعضلة الكبرى بالنسبة للأردن كانت مآلات الصفقة الديمغرافية والجغرافية السياسية من
انفجار أزمة
اللاجئين الفلسطينيين، مع ما قد يترتَّب على ذلك من تغيير تركيبة
الأردن ودوره الوظيفي بوصفه فاعلا جيوسياسيا حيويا في المشرق العربي. فقد حملت الصفقة تصفية فعلية لمشروع الدولة الفلسطينية هدَّد تعريف
الأردن كونه دولة، فضلا عن الإشارة إلى مشروع كونفيدرالية محتمل بين
الأردن والضفة الغربية بوصفه وطنا بديلا للفلسطينيين، وهو خيار رفضته عمَّان جُملة وتفصيلا.
ونتيجة لذلك، ترقَّب
الأردن نتيجة
الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم مع مخاوف جدية من احتمالية فوز
ترامب بولاية ثانية، بينما قرَّر
الملك عبد الله اتباع مسار عملي تحسُّبا لفوز
ترامب عبر حل
مجلس النواب في سبتمبر/أيلول 2020، والدعوة لانتخابات
جديدة لإعادة تشكيل
مجلس نواب جديد من أجل تحضير البلاد لأي عواصف سياسية مُرتقَبة، لا سيما المُتعلِّقة بالقضية الفلسطينية ومصير أكثر من مليونَيْ لاجئ فلسطيني في الأردن.
على صعيد السياسة الخارجية، شرع
الملك في مساعٍ حثيثة لجلب الحياة للعلاقات الأردنية الخليجية. وبعد أربع سنوات من الركود، أعدَّ
الملك جدولا ممتلئا يتضمَّن
خطوات عملية لتنشيط دبلوماسية الأردن، فسافر إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي للمشاركة في قمة ثلاثية جمعته مع نظيرَيْه البحريني والإماراتي في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث أُعيد تأكيد أهمية تحقيق سلام عادل وشامل على أساس حل الدولتين، بما يضمن إقامة
دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في إطار حدود 1967 وعاصمتها
القدس الشرقية. علاوة على ما سبق، استضاف
الملك الأردني
رئيس السلطة الفلسطينية محمود
عباس في وقت لاحق من الشهر نفسه في ميناء
العقبة على البحر الأحمر، مؤكدا في بيان خاص بهذا اللقاء أن "الأردن يقف بموارده كافة إلى جانب الفلسطينيين بُغية تحقيق حقوقهم المشروعة في إقامة
دولة مستقلة".
مع نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تنفَّس
الأردن الصعداء رسميا بخروج
ترامب من البيت الأبيض، ووصول وجه يعرفه
الملك الأردني جيدا إلى الرئاسة الأميركية. كان
الملك عبد الله من أوائل القادة العرب الذين هنَّأوا جو
بايدن بفوزه حينئذ، فنشر تغريدة على موقع تويتر مُهنِّئا
بايدن ونائبته كامالا هاريس، واتصل بعد
أيام قليلة بالرئيس الأميركي هاتفيا وتبادل معه حديثا مطمئنا حول مستقبل التعاون بين البلدين. ومع ثقته بأن إدارة
بايدن ستُظِهر نهجا أكثر توازنا يتسق مع إستراتيجية
واشنطن القديمة في المنطقة، واصل
الملك مشواره الدبلوماسي لتعزيز علاقاته بحلفاء الولايات المتحدة الكلاسيكيين، لا سيما في ملف القضية الفلسطينية، وأهمهم
مصر والسعودية، حيث زار
الملك عبد الله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عشية تنصيب بايدن، وفي 8 من مارس/آذار التقى أيضا بولي
العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، ووُصِفَت تلك الزيارة -التي جاءت بعد عامين من العلاقات الفاترة- بأنها "ذات طابع شخصي وأخوي يتجاوز البروتوكولات الرسمية".
بيد أن مشوار
الأردن في استعادة دوره الإقليمي ليس مفروشا بالورود، فهو يواجه عقبات عدة، أولاها وجود تحالف ناشئ بين دولٍ
خليجية وإسرائيل ينصب على مواجهة إيران، ما يعني أن
الملك الأردني سيواجه صعوبة في إقناع القادة العرب بأهمية الحل العادل للقضية الفلسطينية بما يحفظ استقراره. بالإضافة إلى ذلك، سيواجه
الملك عبد الله تحديا خاصا في التعامل مع
نتنياهو حال نجح في الاحتفاظ بالسلطة بعد
الانتخابات الأخيرة. وعلاوة على ذلك، يتحسَّب
الأردن لاحتمال عدم قدرة
بايدن على التراجع عن بعض قرارات
ترامب فيما يتعلَّق بالقضية الفلسطينية، ما يعني أن عمَّان بحاجة إلى استخدام كل ثقلها الإقليمي وتفعيل تحالفاتها القديمة من أجل إعادة الملف الفلسطيني إلى الخطوط الحمراء القديمة التي وضعها الأميركيون أنفسهم في التسعينيات.
على الرغم مما سبق، هناك أوراق مساومة عديدة يمتلكها
الأردن بالفعل، وقد تساعده في استعادة دوره الإقليمي تدريجيا. أولى تلك الأوراق -للمفارقة- هي دوره غير القابل للاستبدال في الملف الفلسطيني نفسه، فعلى الرغم من تداعيات التطبيع والانقسامات العربية وعدم وضوح موقع الإدارة الأميركية، فإن علاقة
الأردن القوية بالسلطة الفلسطينية ازدادت صلابة في سنوات ترامب، ويُعتقد أن عمَّان بذلت جهدا لإعادة العلاقات بين
السلطة الفلسطينية والإدارة الأميركية الجديدة، بعدما منحت الإدارة الفلسطينيين مؤخرا 15 مليون دولار لمساعدتهم في مواجهة تفشي
كورونا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
العاهل الأردني "عبد الله الثاني" والرئيس الفلسطيني "محمود عباس"
في نهاية المطاف، تُواجِه كلٌّ من عمَّان وواشنطن مسؤولية استعادة الثقة بينهما وإعادة بناء العلاقة التي حطَّمتها إدارة ترامب. من ناحيته، يجد
الأردن نفسه في حاجة ماسّة إلى الإصلاح الاقتصادي للتخفيف من إمكانية تجدُّد الاحتجاجات بسبب آثار الجائحة، وهو بحاجة أيضا إلى المساعدة العسكرية والتعاون الأمني ودعم اللاجئين، خاصة في ظل الحرب السورية وتآكل الضفة الغربية بفعل الاستيطان الإسرائيلي. أما الولايات المتحدة فيُهمِّها، كما كانت دوما، استقرار الدولة الأردنية في ظل مَشرق شديد التوتُّر، كما يُهمِّها إيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية يُرضي حلفاءها القدامى ولا يدفعهم للبحث عن علاقات بديلة قد تضرُّ بأهداف
واشنطن الإقليمية والدولية، على غرار ما قامت به
تركيا في السنوات الأخيرة بالفعل.
لا تزال في جعبة
الملك عبد الله وحكومته أوراق عدة لحماية قلعة الاستقرار الأخيرة في المَشرق، وهو يُحبِّذ ألا يستخدمها دون ثمن، حيث سيكون على الولايات المتحدة منح
الأردن الضمانات التي يحتاج إليها لحفظ استقراره ودوره في مواجهة تمدُّد التحالف الخليجي الإسرائيلي، وفي ظلِّ
رئيس يُقدِّر الإرث التاريخي لتحالفات
واشنطن التقليدية، يبدو أن هناك فرصة حقيقية لعودة العلاقات الأردنية الأميركية إلى مسارها الصحيح خلال السنوات الأربع المقبلة، ومعها سيمتلك
الأردن مساحة لمواجهة عنهجية
نتنياهو وكسر كبريائه -كما فعل قبل أسبوعين- بطريقة لم تكن متاحة طوال سنوات رئاسة ترامب.