سنوات كثيرة مرت على الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة في الثالث من أيار في كل عام، وفي كل عام نتمنى أن تتحسن حالة الحريات الإعلامية، ويشتد عودها وتصبح قادرة على ممارسة دورها في نقل الحقيقة للمجتمع، والرقابة على كافة السلطات.
وفي كل عام تتراجع حرية الإعلام، وتتكاثر الانتهاكات ويُفلت الجناة من العقاب، وهذا الحال تكرس أكثر خلال جائحة كورونا التي ضربت العالم ولم يسلم منها أحد.
الصورة السوداوية لواقع الصحافة لا تعرف حدودا، وحتى الدول الديمقراطية لم تسلم من "وباء" كراهية الصحفيين، والعداء لوسائل الإعلام، وليس مستغربا أن تجد زعماء يحرضون على الإعلام ويهددون الصحفيين والصحفيات علنا وعلى مرأى من الجميع، ولكم في الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نموذجا صارخا منتهكا لكل القيم الديمقراطية التي تروج لها سيدة العالم الولايات المتحدة الأميركية.
هيومن رايتس ووتش في تقرير لها تكشف النقاب عن أن 83 دولة استغلت جائحة كورونا لتبرير انتهاكها لحرية التعبير والتجمع السلمي، وذهبت بإجراءات متطرفة لإغلاق وسائل الإعلام، واعتقلت المنتقدين لها تحت يافطة الوباء الذي يهدد الصحة العامة.
وهو ما دفع هيومن رايتس ووتش إلى مطالبة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة لإصدار تقرير عن تأثير القيود التي فرضت خلال جائحة كورنا على حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي.
لم تلتزم معظم الدول التي فرضت قيودا وتدابير استثنائية عند التعامل مع كوفيد 19 بالإطار الحقوقي، وأهمها أن يكون لها سياق قانوني، وتستند على أدلة علمية، ولا تزهق الحق، وتكون مؤقتة ومتناسبة، بل ذهبت 24 دولة إلى فرض قوانين وأنظمة وإجراءات غامضة تجرم نشر المعلومات عن جائحة كورونا.
اليونسكو احتفلت باليوم العالمي لحرية الصحافة تحت شعار "المعلومات كمنفعة عامة"، وبالتأكيد فقد استلهمت هذا الشعار إيمانا بأهمية تدفق المعلومات الموثوقة لمواجهة فيروس كورونا، وبعد أن اطلعت على حجم القيود التي فرضتها الدول على تدفق المعلومات، مما عطل وحد من إمكانية ممارسة الصحافة لعملها بشكل مستقل.
صدقت المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه حين استخدمت مصطلح " تسييس" وباء كورونا،فلقد استخدم الوباء ذريعة للعصف بالحقوق والحريات الأساسية للناس، وانقضت الكثير من الحكومات المستبدة لتصفي حساباتها مع معارضيها بمن فيهم الصحفيين في ظل قلق العالم من مخاطر كورونا.
غابت معايير حقوق الإنسان في الكثير من الإجراءات التي اتخذت لمكافحة الوباء، ولم يقتصر الأمر على إغلاق الحدود، بل امتدت الإجراءات القمعية لإغلاق "الأفواه" لمنع الحق في التعبير.
التقارير الدولية للمؤسسات المدافعة عن حرية العالم تشي بما يحدث من قمع ضد وسائل الإعلام، وتميط اللثام عما يجري في العتمة بعيدا عن عيون الرقابة، فتقرير "فريدم هاوس" يؤكد أن 38 في المئة من سكان العالم يعيشون في دول غير حرة، وفقط 20 بالمئة يعيشون في دول حرة.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يعلق في كلمة له احتفاء باليوم العالمي لحرية الصحافة بالقول "الصحفيين يتعرضون في بلدان كثيرة لمخاطر تشمل فرض القيود، سوء المعاملة، والاحتجاز، وحتى الموت لمجرد قيامهم بعملهم".
ويتابع " التحديات التي واجهتنا خلال جائحة كورونا تؤكد على الدور الحاسم للمعلومات الموثوقة في إنقاذ الأرواح وبناء مجتمعات قوية".
ويختم بكلمات سيبقى الجميع يتذكرها" الصحافة الحرة المستقلة حليفنا في مكافحة المعلومات الزائفة والمضللة".
إذا كان العالم يتراجع في سجل الحريات الصحفية،فإن الحكومات العربية من المحيط إلى الخليج لا ينازعها أحد في صدارة الدول المنتهكة لحقوق الصحفيين والصحفيات.
تقرير مراسلون بلا حدود السنوي يؤكد هذه الحقيقة، ففي تصنيف العالم لحرية الإعلام، فقط تونس احتلت المرتبة 73، وتبعتها جزر القمر بالمرتبة 84، وموريتانيا 99، وبقية الدول العربية تجاوز ترتيبها الـ 100 من مجموع 180 دولة، وكالعادة تتذيل العديد من البلدان العربية المؤشر كأكثر الدول عداء وانتهاكا لحرية الصحافة.
نظمت اليونسكو مؤتمرا دوليا عبر تقنية الاتصال المرئي ناقشت فيه تزايد التهديدات للصحافة المستقلة ووسائل دعمها بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وسلطت الضوء على شفافية شركات التواصل الاجتماعي، وتدابير حماية وسلامة الصحفيين، وأعلنت دراسة أعدتها عن تعرض 73 في المئة من الصحفيات للعنف عبر الإنترنت.
تقرير مراسلون بلا حدود يوثق مقتل 50 إعلاميا، بالإضافة إلى وجود 400 خلف جدران السجن، هذا المشهد البائس يجد تجلياته بعمق في حالة الحريات الإعلامية في العالم العربي.
مهما فعلت لن تستطيع أن تحصي الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في البلاد العربية، وأول ما يواجهك سؤال عن سيطرة حكوماتها على وسائل الإعلام، واختفاء الصحافة المستقلة.
وبعد ذلك عدد ما تشاء، فحق الحصول على المعلومات غائب ولا تنظمه قوانين إلا ما ندر، وحتى لو وجدت لا تطبق بشفافية، والتشريعات استخدمت كأداة للتقييد وليس للتنظيم، واستحالت إلى أدوات رعب تتسبب في توقيف الصحفيين، أو حبسهم، أو صدور أحكام مالية بحقهم في قضايا بعضها ملفق، مما يعزز الرقابة الذاتية عندهم، فيمتنعون عن ملامسة قضايا المجتمع، ويتجنبون الاقتراب من الخطوط الحمراء التي ترسمها السلطة والمجتمع أحيانا.
ولو بحثت فلن تعثر على سياسات تدعم حرية الإعلام، وتلتزم بتطبيقها السلطات العامة، والتدخل بشؤون الصحافة، وفرض إملاءات عليها أمر شائع ومألوف، ولن تفاجئ إذا اكتشفت أن العديد من وسائل الإعلام تدار من قبل أجهزة المخابرات.
"محرك غوغل" كفيل باطلاعك على مئات الانتهاكات التي تقع على الصحفيين والصحفيات خلال ممارستهم عملهم، وأجهزة إنفاذ القانون لا تلاحق مرتكبيها، وعادة إن لم نقل دائما يفلت الجناة من العقاب.
قصة الصحافة في بلادنا حكاية سلطة لا تؤمن بحق الإعلام بمراقبتها ومسائلتها، لذلك طوقته ومنعته عن ممارسة عمله كعين للمجتمع، ومن لا يقبل الصمت ويقاوم؛ إما أن يخضع للإغراءات ليمشي في طريقها، أو يجد قضبان السجن بانتظاره، وإن تمادى أكثر وظن أنه شجاع فرصاصة طائشة كفيلة بإنهاء المهمة، وتسجل الجريمة ضد مجهول.