مهدي مبارك عبد الله - الانتخابات في دويلة اسرائيل هي وظيفة في إطار الدول الاستيطانية الاستعمارية تختلف عن وظيفتها في الدول العادية فكلّ جولة انتخابات في الدولة الاستيطانية الاستعمارية تشكل منعطف في الطريق الممتدّ لتقرير كيفية استمرار المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ توسيعًا أو تقليصًا وذلك بالعلاقة مع واقع الصراع مع الشعب ومع العوامل الإقليمية والدوليّة وكذلك بالعلاقة مع رؤى أطراف العملية الانتخابية داخل الكيان الاستيطانيّ الاستعماريّ لكيفية بناء الدولة ونظامها السياسيّ والتشريعيّ والقضائي وغيرها من الثوابت الاساسية
بعد فشل زعيم الليكود بنيامين نتنياهو البالغ من العمر71 عام بأقناع الكنيست الاسرائيلي بتغيير قواعد اللعبة السياسية المعنادة عبر اصدار قانون يجعل ( انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من الشعب ) وذلك في محاولة منه للالتفاف على الاحزاب والشخصيات المناوئة له ومع ثبوت استحالة مهمته بتأليف حكومة جديدة ووصولها الى طريق مسدود حيث كانت ( الفرصة الذهبية الجديدة لاستئناف حياته السياسية ) رغم كل التنازلات والاغراءات التي قدمها لمنافسيه السياسيين الا انه لم يتمكن من جمع 61 صوت مطلوب من أصل 120 مجمل أعضاء الكنيست
وذلك بحكم النفور من شخصية أولا والرغبة بإسقاطه والانتهاء من حكمه الطويل الذي دام ( 12 سنة ) وهو ما فرض التحالف القوي الجديد بين كل من الليكودي ( جدعون ساعر ) واليميني المتطرف ( نفثالي بينيث ) والوسطي اليساري ( يائير لابيد ) ورفضهم مد يد العون الى نتنياهو والدخول معه في حكومة مشتركة يجري تداول سلطة رئاستها فيما بينهم وهو ما اضطر رئيس الدولة رؤوفين ريفلين لأجراء مشاورات مع الكتل البرلمانية والاحزاب السياسية الـ (13) في الكنيست
من أجل تسمية بديل لنتنياهو من اليسار واليمين بعد انقضاء المدة القانونية ( 28 يوما) التي منحت لنتنياهو لأجل تأليف حكومة جديدة زد على ذلك كله ( المزاج الشعبي الاسرائيلي العام لا يريد بقاء زعيم الليكود في السلطة ) والانتخابات الاخيرة ( الرابعة ) لم تحسم أزمة تشكيل الحكومة في إسرائيل وبقيت تراوح مكانها بعدما أخفق أطول زعماء إسرائيل بقاء في السلطة في كسر الجمود السياسي المستمر منذ أكثر من عامين فلا اليمين ولا اليسار حصل على الأغلبية وزالت الامور معلقة
اسرائيل دويلة تشكو من الشلل السياسي والمالي ولسنتين متتاليتين فشلت في اصدار موازنة عامة وأربع انتخابات تشريعية اجريت خلال عامين ولم تحقق أي استقرار سياسي والخارطة السياسية الاسرائيلية تزداد تعقيدا ( صراعات متعددة وانشقاقات متوالية بين جميع القوى والتيارات معظمها شخصية اكثر منها ايديولوجية وعقائدية ) اضافة الى الواقع المتأزم اقتصاديا واجتماعيا وسياسا الأمر الذي حتّم العودة مجدداً الى نقطة الصفر حيث الخلاف الجوهري يدور حول نتنياهو الشخص بعدما انقسم السياسيون والاحزاب والرأي العام بين مؤيد ومعارض له
بعدما اصبح نتنياهو ( شخصية سياسية جدلية ) تفتقر الى الاجماع والقبول من الاغلبية العظمى من الإسرائيليين حتى في اوساط حزبه الليكود نفسه وان منافسه يائير لبيد كان يخطط الى اصدار تشريعات في الكنيست ( تمنع نتنياهو من الترشح لرئاسة الحكومة مرة اخرى ) فضلا عن انه يجتمع خصومه من اليمين واليسار في ( جبهة عريضة من الشخصيات المنافسة ) لوالتي تسعى لهزيمته باعتباره رئيس وزراء متهم بالكذب والمكر والانتهازية والتمسك بالسلطة منذ الانتخابات غير حاسمة في عام 2019 وانه ملاحق قضائيا بارتكاب جرائم جنائية بالفساد والرشوة وخيانة الامانة التي ينكرها وانه شخص لا يمكن الوثوق به مطلقا
نتنياهو الداهية الذي يحب أنصاره مناداته بــ ( الملك بيبي ) اتقن كسياسي محترف الاعيب وفوضى الانتخابات وتحالفاتها واساليب التحايل والكذب وشق صفوف المنافسين ومسك معظم الخيوط في يده وهو يراقب عن كثب موجة الغليان الانتخابي من حكومة انتقالية الى اخرى ويقيم تحالفات قصيرة ومتناقضة تبقيه في السلطة وتمنع عنه المحاكمة وربما الادانة حتى وان حدثت مفاجآت واضطرت اسرائيل للتوجه الى انتخابات خامسة سيخوض المعركة معهم مجددا لأنه عاشق ومدمن للسلطة وهمه الاول الاستمرار في الحكم باي وسيلة وثمن
خلال الفترة الاخيرة قاد نتنياهو حملة شرسة لإعادة انتخابه وحاول المتاجرة بأزمة كورونا لمعالجة القضايا السياسية معتمدا على التلقيح الواسع لأغلبية المواطنين بالإضافة الى تحقيق التطبيع مع الدول العربية الاربع ( الإمارات البحرين المغرب والسودان ) كما سمح للاقتصاد والاسواق ودور الثقافة والترفيه بفتح ابوابها في وقت التصويت لجذب اكبر قدر من المقترعين وحثهم على التوجه الى صناديق الاقتراع وانتخابه
على نتنياهو اليوم ان يفهم بان سحره الخلاب قد انتهي وان الزمان الذي كان يستطيع فيه تشكيل الحكومة حتى قبل لانتخابات ولى وان القول بان نتنياهو هو رئيس حكومة اسرائيل في الحاضر والمستقبل لم يعد مقبول بعد فشله في تشكيل حكومة تحظى بدعم الأغلبية لتأتي الضربة التي قسمت ظهره بإعلان رئيس الكيان ريفلين انه سيسلم زعيم حزب ( يش عتيد يائير لابيد ) البالغ من العمر 57 عام والذي عمل مقدم البرامج التلفزيونية سابقا ووزير المالية في حكومة نتنياهو والذي يعتبر ايضا من أقوى خصوم نتنياهو وهو يمثل الصوت الليبرالي للطبقة المتوسطة العلمانية في إسرائيل تفويض لتشكيل الحكومة المقبلة ( حصل على توصيات 56 عضواً في الكنيست لتشكيل الحكومة مقابل سبعة نواب ضده ) والذي سيكون له هدف واحد هو عزل نتنياهو من منصبه وانهاء الكابوس السياسي المستمر
ومع هذا التطور دخل الإسرائيليون في دوامة سياسية أخرى خاصة وانه ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان لبيد سينجح في المهمة في المقابل فان في ذلك فشل وهزيمة واضحة لنتنياهو الذي بدى أقرب من أي وقت مضى إلى فقدان قبضته على السلطة وأن الفترة الطويلة التي قضاها في الحكومة موشكة على الانتهاء ولا يمكن في هذا الصدد اغفال دور مساعديه السابقين الذين عملوا معه في مناصب مختلفة كوزراء ومستشارين فيما وصل اليه وفي مقدمتهم شريكه السياسي المقرب السابق رئيس حزب ( إسرائيل بيتنا ) أفيغدور ليبرمان وجدعون سار ونفتالي بينيت رئيس حزب ( يمينا ) والذين تحالفوا ضده في السر والعلن بعدما اصبح شبه عاجز
الحديث داخل اسرائيل يتردد بشكل قوي بان أزمة تشكيل الحكومة في العامين الأخيرين لم تكن نتاج عدم قدرة أي معسكر أو تكتل من حسم الانتخابات بسبب انقسامات مجتمعية عميقة فقط بل لأن الانتخابات في العامين الأخيرين دارت ( حول شخص نتنياهو وانقسام اليمين الإسرائيلي ) حتى في الليكود وعلى مدى أهلية تولي نتنياهو وهو متهم قضائيا بالفساد وخيانة الأمانة رئاسة الحكومة ولهذا فان خسارته جاءت نتيجة الثأر الشخصي والاشمئزاز المتزايد منه بين الأشخاص الذين سئموه لدرجة أنهم كانوا على استعداد لمنع تشكيل حكومة يمينية او الانضمام إلى الأحزاب المتحالفة مع اليسار الأيديولوجي فقط لإخراج نتنياهو من المنافسة واللعبة
أمام يائير لبيد الآن 28 يوماً لتشكيل حكومة مدعومة من الأغلبية وإذا فشل، سيتم تسليم المهمة إلى الكنيست لمدة 21 يوماً بعد ذلك إذا لم يتمكن أي مرشح من تقديم الأغلبية فسيتم الإعلان عن انتخابات خامسة جديدة وحسم الأمر لأنّه في الواقع ومهما كانت النتيجة فسوف تتشكل حكومة لن تكون جولة انتخابات أخرى وهذا أمر مستبعد جدًا والحديث عنه في الأساس جزءٌ من الحملة الانتخابية للأحزاب لحث جمهورها على المشاركة في التصويت وربما تكون المفاوضات مضنية بين قادة الأحزاب المناوئة والرافضة لاستمرار نتنياهو ولكن في النتيجة النهائية سوف تلزم كل الأطراف بتشكيل حكومة للتعامل مع ملفات النووي الإيراني والمحكمة الجنائية الدولية وتجاوز الأزمة الاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا، إضافة إلى الهدف الأكبر وهو ( التخلّص من نتنياهو وتسهيل محاكمته )
هذه المرّة كما يقول الكثيرون لن يتحمَّل الشّعب الاسرائيلي المزيد من ألاعيب ممثلي الأحزاب وتقلّباتهم وسوف تجد الأحزاب نفسها مضطرة لتشكيل حكومة فقد سئم وملَّ الجمهور من هذه الحالة السِّياسية المتخبطة والهلامية خصوصًا وأن أسباب إجراء جولة الانتخابات الرابعة لم تكن وجيهة وضرورية حيث كان السَّبب الأساسي في فشل استمرار حكومة ( نتنياهو – غانتس ) ليس مبدئيًا وإنما هو بسبب انقلاب نتنياهو على اتفاقه مع غانتس في إطار محاولاته العنيدة للتهرب من مقاضاته
بالرغم من خسارة نتنياهو الواضحة وفي ضربة قوية يتردد صداها في كل اسرائيل الا ان العديد من المحللون الاسرائيليون يبدون الحذر والتريث في اعلان نهايته السياسية لا نه لاعب سياسي متمرس يتقن متعة ( الاستمرارية السياسية ) حتى لو كان لفترة انتقالية كرئيسا لتصريف الاعمال ففي عام 2019 فشل في تأليف حكومة، وفي المقابل فشل منافسوه الذين يشكلون ائتلاف فضفاض من كل الاطياف السياسية أيضاً في جمع تألف ضده وبقي رئيسا بالتكليف في نيسان 2020 الّف حكومة وحدة وطنية مع بني غانش عاشت سبعة شهور ونكث بوعوده لغانش وحرمه من ان يصبح رئيساً للوزراء وللحقيقة والدقة لا يوجد أحد في الطيف السياسي الإسرائيلي المجزأ يحظى بالدعم القوي الذي يحظى به نتنياهو حتى وهو جريح وينزف وهو قادر على تحريك عش الدبابير لليمين الإسرائيلي واطلاق حرب خبيثة من الشائعات ضد خصومه
اخيرا هل صحيحا ان أيام نتنياهو في الحكم تقترب من نهايتها ام انه سيبقى يقاتل في كل الجبهات كثعلب ماكر وداهية محنك يعمل بالضغط على الاحزاب السياسية لأفشال تشكيل حكومة لبيد ليثبت للجميع انهم لا يستطيعون العيش بدونه حتى وان كرهوه كمجموعات متهالكة من الحلفاء والوزراء السابقين غير قادرة على ازاحته عن خشبة المسرح الرسمي الاسرائيلي وذاكرة التاريخ الموثقة بالفساد والشبهات
mahdimubarak@gmail.com