مهدي مبارك عبد الله - لم يهتم كثيرا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بمشهد الألاف المواطنين الافغان صباح يوم الاثنين 16 / 8 / 2021 وهم يتراكضون في حالة من الذعر والفوضى وهم يتجمهرون حول الطائرات الاجنبية الهابطة والمقلعة على مدرج مطار كابول ويتعلقون بحواشيها وهي تتقدم غير آبهة بعشرات الأرواح من حولها ثم تحلق رامية بعضهم من على ارتفاع عشرات الأمتار نحو الهاوية
بعد محاولتهم المتكررة للصعود والهروب خارج البلاد بعدما سيطرة حركة طالبان على مقاليد الأمور كاملة في افغانستان هذا الوصف التراجيدي المؤلم ليس لمشاهد من فيلم هوليودي عن نهاية العالم بل هو حقيقة شاهدها العالم للمأساة التي عاشها المواطنين الافغان بمطار كابل بعد صراع وحروب دامت 20 عام وضعت في النهاية حياة الملايين منهم على محك الاختيار بين أشكال متعددة من الموت كان أبرزها الدهس تحت عجلات الطائرات او بين اقدام المتزاحمين او السقوط عن السلالم العالية او من بوابة الطائرة او من خلال زخات الرصاص في سبيل مغادرة البلاد وهم يتعلقون بآخر خيط للنجاة
سلاح الجو الأمريكي أعلن مؤخرا أنه باشر التحقيق بسقوط أشخاص من طائرة شحن من طراز سي 17 تابعة للولايات فوق مطار حامد كرزاي الدولي بالعاصمة الأفغانية كابل بتاريخ 15 آب الجاري خلال عمليات الإجلاء من العاصمة حيث قتل فيه عدة الأشخاص عندما اجتاح مئات المدنيين الأفغان الذين كانوا يائسين لمغادرة البلاد طائرة الشحن أثناء محاولتها الاقلاع بعدما عثر على رفات بشري في عجلة الطائرة بعد وقت طويل من هبوطها في قاعدة العديد الجوية بدولة قطر
أمام كل هذه المآسي والفواجع لم يدخر الرئيس الفرنسي ماكرون جهداً في تحذيره المتكرر من مغبة موجة نزوح افغانية قد تشهدها أوروبا من جديد كان ذلك إثر خطاب توجه به مؤخرا للشعب الفرنسي بعد سقوط كابل وسيطرة حركة طالبان التامة على أفغانستان استمر لنحو 10 دقائق ركز فيه على ( حماية أوروبا ) من تدفق المهاجرين الأفغان غير الشرعيين كما أعلن خلاله عن مبادرة مع الدول الأوروبية للحؤول دون موجات هجرة واسعة تغذي التهريب على أنواعه من أفغانستان وطالب بعدم مساعدة دول الجوار على استقبال اللاجئين
ولم يتحدث ماكرون في خطابة عن فتح أي ممرات آمنة للأفغان الفارين أو منحهم تأشيرات الا انه ركز على عزم بلاده الى إطلاق وانجاز ( مبادرة مشتركة لبلورة رد صلب اوروبي منسق وموحد ) وحث على التضامن في الجهود والتجانس في معايير الحماية وإقامة آليات تعاون مع دول العبور مثل تركيا وإيران وباكستان لمنع وصول المهاجرين الافغان الفارين من بلادهم الى اوروبا وطالب ايضا كل من اليونان وألمانيا وبلجيكا والنمسا وهولندا الاستمرار في الترحيل القسري للاجئين الأفغان
وفي ختام حديثه شدد الرئيس الفرنسي ماكرون على ضرورة حماية من ساعدوا فرنسا من مترجمون وسائقون وطباخون وآخرون وكذلك جميع الموظفين الأفغان في الهياكل الفرنسية الذين يمكن أن يتعرضوا للتهديد وأسرهم التي تمثل أكثر من 600 شخص حيث سيتم إيواؤهم في فرنسا يضاف إليهم عدد آخر من ( الحقوقيين والمحامين والصحفيين والفنانين والمناضلين الأفغان ) وقد اعتبر هذا الموقف ( شرف عظيم لفرنسا )
اتهم الكثيرون السياسيون داخل فرنسا ما ورد على لسان ماكرون بالعنصرية البغيضة ورأى فيه آخرون ( انتهازية غير اخلاقية للأحداث الأفغانية الأخيرة ) ضمن محاولاته السياسية الرخيصة والمكشوفة لاستمالة ناخبي اليمين الفرنسي المتطرف لحملته الانتخابية الرئاسية المقبلة عام 2022 وهو في كل ذلك يحاول محاكاة خطاب زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف ( مارين لوبان ) في المنافسة الشعبوية المعادية للمهاجرين
كما لاقى حديث ماكرون استهجاناً كبير لدى الرأي العام الدولي والعالمي متهماً إياه بالعنصرية والانتقائية في اعطاء المواطنين الأفغان حق اللجوء المكفول دولياً والذي يهدف أساسي للحفاظ على سلامة الإنسان من دون اعتبار لموقعه او مهنته أو نشاطاته العامة
قائلًا وفي هذا السياق غرد حساب النقابة الطلابية الفرنسية الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا مستقبلًا ستذكر كتب التاريخ بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ترك للموت المحقق آلافاً من اللاجئين الأفغان يختارون منه أي نوع يشاؤون
كما قالت المناضلة الحقوقية والصحفية الفرنسية من أصول مغربية، فايزة بن محمد على صفحتها بتويتر ( لا يمكن تحمل الإصغاء لما يتفوه به ماكرون وهو يتحدث عن حماية أوروبا من سيل الهجرة الناتجة عن الأوضاع المأساوية بأفغانستان ) بدل ان يبادر الى فتح معابر آمنة للاجئين الأفغان في ذات الوقت الذي نتذكر دروسه حول أهمية نشر مبادئ الجمهورية الفرنسية الحرة بالعدالة والحرية والمساواة وتسألت هل الرجل مريض
من المعلوم ان ماكرون ولوبان يتنافسان في انتخابات السنة القادمة حول عرش الإليزيه ولهذا فهم حديث ماكرون الأخير من قبل بعض السياسيين الفرنسيين على أنه حملة انتخابية سابقة لأوانها ومحاولة منه لاستمالة ناخبي اليمين المتطرف للتصويت له وهو الأمر الذي أشار إليه منافسهما الآخر ( جان لوك ميلانشون ) عن حركة فرنسا الأبية أقصى يسار المشهد السياسي الفرنسي بقوله لقد حان وقت إعادة تشكيل سياستنا الدولية وان انتخابات 2020 هي اللحظة الأهم لتحقيق هذه الغاية
من جانب اخر تلقى الاتحاد الأوروبي انتقادات كبيرة وصفت إعلامياً بـ ( النفاق الأوروبي ) حول تأخره في الاستجابة لطلبات اللاجئين الأفغان وعلى طول تلك الفترة تمسكت الدول الأوروبية بتجاهلها طلبات السلطات الأفغانية بعدم ترحيل اللاجئين لكونهم لا يعتقدون أن الوضع القائم لا يمثل تهديداً حقيقياً للسلامة الشخصية لطالبي اللجوء الأفغان كما سبق وأورده قرار السلطات الفرنسية بموجب تعليمات وزارة الداخلية
اجبرت الشرطة الفرنسية قرابة 60 مهاجراً اغلبهم افغان على مغادرة شوارع العاصمة باريس الذين كانوا ينتظرون منذ أشهر البت في طلبات اللجوء التي قدموها تزامناً مع معاناتهم في تأمين المأوى وقد استخدمت الشرطة الفرنسية الغاز المسيل للدموع والعصي لإجبارهم على الرحيل رغم قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان السماح لهم بالبقاء في انتظار حسم طلباتهم ناهيك عن مناشدة السلطات الأفغانية فرنسا وأوروبا عدم ترحيلهم
نظرا لتلاحق الأحداث الدامية بالبلاد وتصعيد العنف الا ان الاتحاد الأوروبي ظل متشبثاً بقرار الترحيل لان وقفه حسب قناعاتهم قد يشجع المزيد من الأفغان لمغادرة بلدهم نحو اوروبا حتى جاء انهيار الحكومة الأفغانية وسقوط كابل في يد طالبان لتفتح الأبواب لهم حيث تقاطرت دعوات دبلوماسييها لإخلاء معاونيها وعاد التسابق نحو استقبال أولئك اللاجئين. إذ أعلنت ألمانيا عن نيتها إجلائها المتعاونين الـ2500 من الذين خدموا قواتها إضافة إلى 10 آلاف لاجئ آخر من المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان
الرئيس إيمانويل ماكرون لم يتخذ موقفاً إنسانياً في تصريحاته الأخيرة حول أفغانستان في حين أن العديد من الدول الأوروبية وعدت باستضافة الأفغان الفارين من طالبان على أراضيها إلا أن ماكرون تحدث فقط عن الأفغان الذين عملوا من أجل فرنسا
ليس غريب ان يستمر تطرف الرئيس الفرنسي الذي يشرعن لنفسه تحت مظلة العلمانية عبر تصريحاته وخطاباته في زيادة هجماته على المسلمين الفرنسيين وغير الفرنسيين وزيادة دعمه ومساندته للحركات ووسائل الإعلام والحوادث والهجمات المعادية للمسلمين وتحريضه على كراهيتهم والتمييز المؤسسي والتحريض على استهدافهم والعنف ضدهم
في عام 2019 ربط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ( اسمه الأول هو الاسم الذي أطلقه الملَك جبرائيل ليسوع في الأناجيل ومعناه الله معنا ) ووزير داخليته آنذاك كريستوف كاستانير المسمى أيضًا على ( اسم المسيح نفسه ) الإرهاب في فرنسا بأي مؤشرات تدل على عقيدة وثقافة المسلمين الفرنسيين بما في ذلك اللحية والصلاة 5 مرات في اليوم وتناول الطعام الحلال وغيرها
ولا زلنا نتذكر جيدا تصريحاته العنصرية المستفزة بان الإسلام في جميع أنحاء العالم يمر اليوم بأزمة ولا يقتصر ذلك على فرنسا فقط وأنه يسعى إلى تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية بتحسين الرقابة على تمويل المساجد ومراقبة رجالات الدعوة
ليس ماكرون أول حاكم فرنسي أراد تحرير الإسلام فهذا تقليد فرنسي علماني قديم فعندما غزى نابليون بونابرت مصر وفلسطين عام 1798 كانت خطته الذكية هي الكذب على المصريين بإعلانه أنه وجيشه انهم مسلمون ومؤمنون أتوا لتحرير المسلمين والإسلام من طغيان حكم المماليك ولم تنجح حيلته وثار عليه المصريون كما فعل الفلسطينيون وعاد مهزومًا إلى فرنسا والحديث يطول حول جرائم فرنسا ضد المسلمين في الجزائر وها هو اليوم الرئيس ماكرون وكما تربى فكرا وعقيدة وسلوك يعيد سيرة اجداده الغابرين بعنصرية وكراهية مطلقة على مستوى العالم الاسلامي اجمع
mahdimubarak@gmail.com