إذا كانت (الأغورا) ساحة الاجتماعات العامة عند اليونان قد أفرزت مفهوم الحوار الفكري الذي نشأ بين ممثلي المجتمع اليوناني في مناقشة قضايا مجتمعهم، والذي ارتكزبدوره على مفاهيم فلسفية تحاورية اهتمت بالعقل الإنساني وتطويرآفاقه، مرورا بالفكر الإسلامي كفكر الغزالي، وابن رشد في كتباتهما عن أهمية الحواربين الشعوب مستندين بالطبع لأصول الثقافة العربية الإسلامية التي تحترم المسلم والآخر، وصولاً لفكر بوير في تسعينيات القرن الماضي حول فلسفة الحوار(أنا وأنت) وما تناوله أيضاً العديد من المفكرين والفلاسفة في كتاباتهم، والبحث عن مواصفات الحوار الفكري المنبثق من أصول فكرية عقلانية تركز في أولوياتها على الإنسان ومحيطه وبيئته، وبلا شك في سردنا التاريخي السريع هذا نجد بأن الحوار الفكري ركز على العقل بالدرجة الأولى مبتعداً عن الانفعالات العاطفية، و النزعات الفكرية والانتماءات، والأهواء الشخصية المتحولة.
وبعيداً عن النمطية في التفكير القائل بأن الحوار الفكري وسماته مرتبطاً بثقافة مجتمع معين، أو قومية معينة بلغتها، وقيمها، ومحدداتها الثقافية وعاداتها وتقاليدها، بحيث نصف شخصاً يتحاور مع الآخر على سبيل المثال في لقاء فكري بأنه عربياً منتمياً لقومية عربية أوغربياً محسوباًعلى الثقافة الغربية أومفكراً منتمياً لأيدولوجية أو مدرسة فكرية معينة، فحتماً وبالضرورة ستجرنا هذه النمطية لاختزال وتقزيم مصطلح الحوار الفكري بحيث يصبح مؤطراً بمساحة جغرافية أومساحة مكانية، أو إنتماءات دينيه، أو عرقيه، أو حتى طبقية منها، وسنبتعد عن المحتوى المعاصر لمفهوم الحوار الفكري الصحيح- المرتكز حقاً على ثقافة الكون الرحب الذي تتعايش به المجتمعات البشرية جمعاء في إطارجغرافي كبير وتتشارك في عمارة الأرض برغم اختلافاتها .
ومن الملاحظ وللأسف في اللقاءات الفكرية العربية سواء من خلال المؤتمرات، أو الندوات، أو اللقاءات الفكرية، أو البرامج المتلفزة، أو حتى بعض الأعمال الكتابية في الصحف المقروءة المتعددة بأن لغة الخطاب تركزعلى الجدل العقيم عديم الفائدة وعلى إظهار( لوحة المعركة ) إما الانتصار، أو الخسارة، وبالتالي شعور المنتصر بنشوة الانتصار، والخاسر بتراجع الفكر والانهزام ، وهنا ومن الأجدر تفعيل دور مؤسسات الفكر العربي ذات الطابع السياسي، والثقافي، والتربوي، والديني بحيث تركزفي مضامينهاعلى الحوار الفكري المستند بدوره إلى الصورة الإنسانية المشرقة التي كرمها الله عز وجل بغض النظر عن المحددات المذكورة سابقاً.
وهنا تأتي الدعوة الى ضرورة اهتمام مؤساساتنا التعليمية، والأكاديمية والقائمين عليها بالبيئة الصفية بحيث تكون القاعات الدرسية مكاناً للحوارالفكري الهادف بين الطلبة مع معلميهم وبين الطلبة أنفسهم بحيث تصبح مخرجات التعليم عبارة عن مشاريع تطبيقية ومبادرات هادفة وصانعة للغة الحوار الإيجابي، وتعكس الإطار المعاصر للاصلاح التربوي، التعليمي، التنموي، رفيع المستوى، والمنسجم مع متطلبات العصر الرقمي الذي نعيش والمكون بنفس الوقت للشخصية العربية الإنسانية التي تؤمن بالتسامح والمحبة ومحاربة الإرهاب والعدائية بشتى صورها والمؤمنة بذات الوقت بالانفتاح الممنهج.
وختاماً وفي نهاية المطاف ومهما تعددت الثقافات فلا بد لها وأن تجتمع تحت مظلة الثقافة البشرية الإنسانية متشابهة الملامح- بعيدة تمام البعد عن مفهوم العولمة المقولبة ثقافيا والمتحيزة لثقافة معينة _ وإنما ثقافة قائمة على سد الفجوات والاختلالات بين الانتماءات الفكرية المتشعبة بحيث تتكون نقطة الإلتقاء مع الآخر، وسبيلاً لحوار العقل أمام العقل دون اعتبارات مضللة له.