زاد الاردن الاخباري -
في كل صيف، ينظم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ندوة هامة حول السياسيات الاقتصادية في جاكسون هول بولاية وايومنغ. ويعد هذا الحدث أحد أقدم مؤتمرات البنوك المركزية في العالم، حيث يجمع بين كبار الاقتصاديين والمصرفيين والمشاركين في السوق والأكاديميين وصُناع السياسات لمناقشة قضايا الاقتصاد الكلي طويلة الأجل.
وخلال ندوة العام الماضي، التي عُقدت أيضاً عبر الإنترنت بسبب المخاوف المرتبطة بكوفيد-19، أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي رسمياً عن إطاره الجديد للسياسة النقدية، الذي تم بموجبه تحديد نسبة مستهدفة لمتوسط التضخم تبلغ 2% بمرور الوقت. وبموجب هذا الإطار، يجب تحقيق نسبة 2% المستهدفة خلال دورة الأعمال، مما يعني أنه يجب التعويض جزئياً أو كلياً عن أي انحرافات سابقة من النسبة المستهدفة في المستقبل أو احتساب "المتوسط".
وفي حين أن هذه الندوة التي يقودها بنك الاحتياطي الفيدرالي تحتل دائماً مكانة هامة في أجندة المستثمرين، إلا أنها اكتسبت أهمية إضافية في العام الحالي. فقد أعقبت فترة من الدعم الاقتصادي الاستثنائي للتصدي لصدمة كوفيد-19، وانتعاش اقتصادي قياسي، وارتفاع كبير في معدلات التضخم في الولايات المتحدة. في الواقع، ارتفع مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي في الولايات المتحدة، وهو الأداة المفضلة لبنك الاحتياطي الفيدرالي لقياس التضخم، بنسبة 3.6% على أساس سنوي في يوليو 2021، وهو أعلى مستوى له في 30 عاماً.
يؤدي استمرار اضطرابات الإمداد المرتبطة بالجائحة والانتعاش القوي في الطلب إلى إبقاء العديد من الأسعار تحت الضغط. ويشكل ذلك، إلى جانب التحسن السريع في أرقام التوظيف، بيئة اقتصاد كلي تستدعي فرض إجراءات "تطبيع" من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي. ويستلزم مثل هذا التطبيع تقليص المشتريات الحالية من الأصول (تخفيضها تدريجياً) من 120 مليار دولار أمريكي شهرياً، ثم تطبيق زيادات في أسعار الفائدة في وقت لاحق.
خلال الخطاب الذي ألقاه في جاكسون هول، قدم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، ما فُسر من قبل السوق على أنه وجهة نظر "هبوطية" نسبياً بشأن الاقتصاد الأمريكي. فقد شدد باول في تصريحاته على مخاطر الهبوط مثل "الارتفاع الكبير في معدلات البطالة"، والصعود "المؤقت المحتمل" في التضخم والمخاوف بشأن متحور دلتا التي من شأنها أن تخفف من وتيرة تطبيع السياسة النقدية. كما أنه أزال التكهنات المستمرة حول رفع أسعار الفائدة في وقت أبكر مما كان مخططاً له في المستقبل القريب، قبل عام 2023. ويشير ذلك إلى أن التحفيز النقدي الاستثنائي سيتم تقليصه بوتيرة أبطأ مما كان متوقعاً في السابق من قبل السوق.
من وجهة نظرنا، هناك ثلاثة عوامل تدعم نهج رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الحذر تجاه تطبيع السياسة النقدية.
أولاً، يفقد التعافي الأمريكي حالياً زخمه مع تلاشي الحوافز المالية واعتدال نمو الاستهلاك، بعد أشهر من التوسع الاستثنائي. ووفقاً للمؤشر الأسبوعي الرائد للنشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، وهو عبارة عن مزيج من البيانات عالية التردد التي تميل إلى التقدم على دورة الأعمال بواقع 3 إلى 10 أشهر، من المتوقع أن يتباطأ الاقتصاد الأمريكي بشكل ملحوظ خلال الأشهر العديدة المقبلة. والسبب الرئيسي في ذلك هو انحسار الدخل الشخصي، حيث تم الانتهاء من التحويلات المباشرة من الحكومة في أبريل 2021 ومن المقرر أن تنتهي الإعانات الخاصة بالبطالة خلال الأسابيع القليلة المقبلة. وستكون السلطات النقدية حذرة من سحب التحفيز بسرعة كبيرة في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد الأمريكي ويتراجع فيه دخل الأسر.
ثانياً، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم خلال الأرباع القليلة القادمة مع تخفيف اضطرابات الإمداد المرتبطة بجائحة كوفيد-19 وعودة المعروض من اليد العاملة إلى الوضع الطبيعي. وهناك بالفعل دلائل على أن النقص الحاد في الرقائق وغيرها من المدخلات الرئيسية أو السلع الجاهزة آخذ في التراجع، وأن الاختناقات المتبقية ستزول تدريجياً خلال الأشهر التسعة المقبلة. علاوة على ذلك، من المرجح أن يخف نقص العمالة في الولايات المتحدة بعد سحب الإعانات الخاصة بالبطالة وعودة الجدول المدرسي إلى نظام "الحضور الشخصي" الأقرب للوضع الطبيعي، مما يهيئ الظروف لعودة الإناث إلى العمل. ومن المتوقع أن يؤدي ارتفاع معدل المشاركة في العمل إلى منع أي دوامة في الأسعار والأجور، مما يقلل من احتمالات حدوث تسارع مستمر في التضخم، ويقلص الحاجة إلى تدخل السلطات.
ثالثاً، لا يزال انتشار متحور دلتا والمتحورات الأخرى من كوفيد-19 شديدة العدوى يهدد تعافي الاقتصاد العالمي، لا سيما في البلدان ذات معدلات التطعيم المنخفضة أو التردد الكبير حيال أخذ اللقاح. ويمكن أن يؤدي الارتفاع المفاجئ للمخاطر المرتبطة بكوفيد-19 في الولايات المتحدة خلال فصل الشتاء إلى تعطيل الاقتصاد بسرعة، مما سيلغي احتمال حدوث تغيير مفاجئ في السياسة النقدية.
بشكل عام، ستكون الطريق إلى تطبيع السياسة النقدية طويلة نوعاً ما، حيث تميل السلطات إلى توخي الحذر. فالتباطؤ الاقتصادي المستمر بعد التعافي، واعتدال التضخم، ووجود مخاطر سلبية، جميعها عوامل تعزز حذر بنك الاحتياطي الفيدرالي حيال الإفراط في تقليص التحفيز أو الإقدام على ذلك في وقت مبكر للغاية.