الدكتور: رشيد عبّاس - إذا كنا في هذا الوطن نسعى إلى تغيير مصيرنا الأليم من المعاناة والفقر الذي نحن فيه إلى عالم الرخاء والثروة, علينا أن نكون قادرين على تطبيق نموذج من النماذج الاقتصادية الناجحة, أو تصميم نموذج محلي ببصمة وطنية تجعلنا ننتقل من دولة فقيرة تعاني إلى دولة غنية متقدمة..وخلاف ذلك فإن مصيرنا سيقودنا إلى مربع تضيق فيه الابعاد, مربع يسمى مربع اللاعودة يصعب معه إعادة التموضع من جديد لا قدّر الله.
الواقع يقول أن مصيرنا مجهول وفي خطر, ومن يقول غير ذلك عليه إجراء فحص نظر باستخدام الليزر وعلى جناح السرعة, وعلينا هنا جميعاً رفض هذا الواقع الأليم والعمل على تغيير مصيرنا وذلك بأسلوب مواجهة الحقيقة, مع أن الأمر في البداية لا يتطلب ثروات طبيعية ضخمة أو موقعا جغرافيا مميزا بقدر ما يتطلب الإرادة واستنباط نموذج اقتصادي هو الأصلح والمناسب لظروفنا وواقعنا الحقيقي، وذلك من أجل أن نتحول من الفقر إلى الحياة الطبيعية.
مواجهة الحقيقة يا معشر القوم لا يبدأ بمحاربة الفساد, ولا يبدأ بإصلاح القوانين, ولا يبدأ بحكومة نيابية منتخبة, ولا..لا.., وان كان كل ذلك مهم وضروري للغاية, مواجهة الحقيقة تبدأ بالتدرج بتطبيق نموذج اقتصادي مستورد يتناسب مع واقعنا, أو بتصميم نموذج اقتصادي محلي يحمل جملة من الإجراءات الاقتصادية القابلة للتنفيذ, والسؤال هنا هل لدينا رجال مؤهلين لتطبيق نموذج اقتصادي مستورد يتناسب مع واقعنا, أو هل لدينا رجال مؤهلين لتصميم نموذج اقتصادي محلي يحمل جملة من الإجراءات الاقتصادية القابلة للتنفيذ..الجواب يعتمد على وجود (غربال) من العيار الثقيل يسمح بهزه من جهة اليمين إلى اليسار تارة, وهزه إلى الأمام والخلف تارة اخرى, ويكون بيد مـ(غربل) مربوط على أسفل بطنه الشماغ الاردني.
هذه المواجهة للحقيقة تتطلب الدخول على لجنة الإصلاح وعلى الأعيان والنواب والوزراء والمدراء والرؤساء, وغربلة من لديه القدرة على تطبيق نموذج اقتصادي مستورد يتناسب مع واقعنا الحقيقي, أو تحديد من لديه القدرة على تصميم نموذج اقتصادي محلي يحمل جملة من الإجراءات الاقتصادية القابلة للتنفيذ, وفي الوقت الذي اعرف فيه أن مشاكلنا تكمن في الغربال والمغربل, إلا أن مصيرنا أهم بكثير من التلاعب بثقوب الغربال..تلك التي تتسع عند البعض وتضيق عند البعض الآخر.
في هذا العالم الذي نعيش فيه هناك نماذج ناجحة لبعض الدول والتي قامت بتغيير مصير شعوبها بإجراءات اقتصادية متواضعة, مع ملاحظة أن شعوبها لم تبدأ باحتجاجات ولا بحِراكات مسيّسة, ولم تبدأ بمحاربة الفساد, ولا بإصلاح القوانين, ولم تبدأ بحكومات برلمانية منتخبة, ولم تكن تملك ثروات طبيعية هائلة وبعضها كان على أطراف العالم النائي، مع أن كل ذلك مهم وضروري, لكنها غيّرت مصيرها من المعاناة والفقر إلى الرخاء والثروة عبر تطبيق نماذج اقتصادية متواضعة قابلة للتنفيذ حملت بصماتها الخاصة بها.
نموذج السويد مثلاً تمثل في قهر الفقر من خلال تسوية اقتصادية عن طريق التجارة الحرة والتي تمت بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني, حيث تحولت من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، فقد تم تطوير اقتصاد يهدف إلى التصدير مع التركيز بشكل رئيسي على التجارة الخارجية, بدأ ذلك مع تصدير المواد الخام الأساسية إلى تصدير المعرفة والأفكار المبتكرة, وأصبحت السويد تمتلك الآن الآلاف الشركات التي تصدر إلى الخارج وأكثر من نصف المنتجات المصنعة في السويد يتم تصديرها إلى الخارج.
والهند بدأت نهضتها الاقتصادية باستثمار موارد الدولة في التصنيع لتلبية احتياجات السوق المحلية فقط، مع التدرج في المنافسة العالمية في الأسواق الخارجية, حيث تحرر الاقتصاد وقادت مسيرة الانفتاح على العالم، وجلب الاستثمارات الأجنبية، من خلال رفع العوائق التجارية وكسر الاحتكارات الحكومية، وخفض الضرائب، وقضى على البيروقراطية وتشجيع المنافسة.
وماليزيا نهضت من خلال برنامج للإصلاح الاقتصادي مقتضاه يرمي الى سياسة اقتصادية جديدة, ففي إطار هذا البرنامج أعادت الحكومة توزيع الثروة بين افراد المجتمع وخلق طبقة متوسطة مثقفة جديدة, والذي ادى بدوره الى التوسع السريع في التعليم الرسمي وبالتالي ايجاد فئات مهنية متعلمة دعمت الثورة الصناعية, الامر الذي ادى إلى تصدير السلع المصنعة إلى دول العالم بدلاً من مجرد بيع المواد الخام, والعمل على فرض ضوابط على رأس المال، وبتثبيت سعر صرف عملتها أمام الدولار.
وأستراليا كانت على حافة الانهيار الاقتصادي، وقد صرح وزير ماليتها في عام 1986 أن الدولة في طريقها لتكون إحدى دول العالم الثالث, لتتخذ حينها قرارات حاسمة بتعويم عملتها الذي أدى إلى انخفاضه ومن ثم زيادة تنافسية الصادرات الأسترالية, إضافة إلى حزمة من القرارات الاقتصادية مثل خفض الرسوم الجمركية وإعادة تنظيم المؤسسات الحكومية وزيادة شفافيتها, وبعد هذه الإصلاحات التحولية، ومنذ عام 1991 لم تشهد أستراليا حالة ركود واحدة لتصبح أستراليا اليوم أحد أكبر الاقتصادات العالمية، وبأقل نسب بطالة في العالم رغم كم المهاجرين الوافدين إليها.
أما كوريا الجنوبية..، فهي مضرب المثل في التحول الاقتصادي العالمي، فقد حوّلت مجراها التاريخي من بلد زراعي مليء بالفلاحين إلى بلد صناعي متطور يعتمد اعتمادا تاما على الصادرات التقنية, وقد سبقت اليابان كوريا في هذه التجربة بتحولها إلى بلد يعتمد على الصناعات التقنية، وتلتهما من بعد ذلك الصين ولكن بنموذج اقتصادي مختلف.
المتتبع لبصمات تغيير المصائر الأليمة التي كانت عليه مثل هذه الدول يجد دون ادنى شك أن هناك بصمات (لنماذج اقتصادية) مع اختلاف هذه الصمات المتّبعة من دولة إلى اخرى تم تنفيذها, حيث صمّمت هذه الدول برامج اقتصادية من خلال حزمة من الاجراءات الاقتصادية وتدرجت في تطبيقها حتى وصلت إلى ما وصلت اليه,..ولم تقم هذه الدول بإضاعة الوقت بتشكيل لجان اصلاح رئيسية وفرعية لدراسة القوانين وتعديلها, ولم يخرج شعبها بالشوارع ليطالب بمحاسبة الفاسدين وان كان ذلك ضرورة ملحة, أو لم تقم بالمناداة بتشكيل حكومات برلمانية منتخبة مع اهمية ذلك, او برفع شعارات المحاصصة البغيضة على مفترقات الطرق والجسور, أو بالتهكم على الباصات السريعة, أو..أو.., كانت بوصلة الدولة والشعب متوافقة معاً وفي اتجاه واحد هو تطبيق (نماذج اقتصادية) من قبل عدد محدود من الخبراء بعدد أصابع اليدين..ليغيروا بذلك مصائرهم الأليمة, إلى حياة كريمة ومحترمة.
وبعد..
النداء الموجّه نحو كيف نغيّر مصيرنا؟ يكون بالاستجابة الأسرع من النداء وذلك من خلال تحديد (نموذج اقتصادي) بحزمة من الاجراءات الاقتصادية تتناسب وواقعنا الحقيقي, ومن ثم التدرج الفوري بتطبيق هذا النموذج, مع تصميم غربال خاص لغربلة اللجان والاعيان والنواب والوزراء والمدراء والرؤساء في هذا الوطن العزيز مع احترامنا الشديد لأشخاصهم جميعاً والبقاء على نخبة قليلة جداً منهم تكون بالضرورة قادرة للسير قدماً في الاتجاه فقط.
حمى الله الوطن, وحمى الله جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم, وولي عهده الأمير حسين بن عبدالله الثاني.