مهدي مبارك عبد الله - معلوم بان الشك والتشكيك والخوف والريبة هي سمات فطرية من طباع البشر وجزء رئيسي من تكوين الإنسان وان نظرية المؤامرة هي اختراع عقلي تحوطي مثبت ومجرب منذ قديم الزمان فهناك من شكك بالأديان والرسالات السماوية والرسل والأنبياء ولا يزال هناك من يشكك في وجود الله ووحدانيته وقدرته وفي زمان وعصر جائحة كورونا وجدنا الكثيرين ممن شككوا في أصل الفيروس حيث زعموا بأنه من صنع الإنسان حيث يرى أنصار هذه النظرية ان ظهور الوباء وانتشاره بهذه السرعة الفائقة بين قارات العالم وموت هذا الكم الهائل من الناس يدخل في سياق الصراع بين الدول الكبرى على تطوير سلاح بيولوجي مدمر الا انه في النهاية فلتت الأمور من بين ايديهم بعدما تسرب الفيروس إلى خارج المختبرات المتخصصة وبذلك بدأت المشكلة بالإصابات والعدوى
الأمريكيون لا زالوا في هذا المشهد المربك يتهمون الصينيين الذين يردون باتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء هذا الفيروس المميت وبين هذا وذاك وصلت القناعة أو لنقل العناد لدى البعض من الناس إلى حد رفض الاعتراف بالفيروس وبالنتيجة يرفضون التعاطي مع التطعيم بأي شكل من الأشكال رغم الإعلان عن وفاة عدد لا بأس به من اصحاب هذا الرأي جراء إصابتهم بالفيروس وهذا بحد ذاته فاقم المشكلة وساعد في بقاء الفيروس واستوطأنه بين ظهرانينا هذه المدة الزمنية الطويلة
العالم اجمع بكل قدراته الصحية والوقائية ومع التطوير المستمر لفاعلية اللقاحات والعلاج لا زال عاجر كليا عن تطويق انتشار الوباء ووقف تمدده وفتكه المتوحش بالشر وقبل ايام قليلة اعلنت مصادر صحية مسؤولة ان الأردن اصبح في المرتبة 39 عالمياً بعدد الإصابات التراكمي لفيروس كورونا رغم انخفاض عدد إصابات كورونا النشطة بين المواطنين بشكل واضح وفقا للإيجازات اليومية لوزارة الصحة الا ان الخطر لا زال داهما ومحدقا والخوف يتعاظم في ظل قدرة الفيروس المرعبة على التحور المضطرد ومقاومته للقاحات وكافة سبل الوقاية وطرق العلاج
وعلى الرغم من الأرقام المتصاعدة للوفيات والمصابين بفيروس كورونا وبرغم تحذيرات المختصين بأن الفيروس بات أكثر شراسة مقارنة مع السلالات الأولى بدليل الوفيات المسجّلة في أوساط الشباب والكهول من الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة قبل الإصابة بالوباء إلّا أن حالة الاستهتار لا زالت مستمرة في المجتمع ولا زال العديد يجتمعون بأعداد كبيرة في ولائم الأعراس وحتى الجنائز وأحيانا تكون جنائز خاصة بضحايا كورونا دون اتخاذ أدنى الاحتياطات من تباعدٍ وارتداء للكمامة وتجنّب المصافحة
لقد تخلص الاردنيون في السابق من الكثير من الأمراض السارية والمعدية وعلى رأسها الأنفلونزا الموسمية بعد الالتزام بالإجراءات الوقائية والحذر من مخاطر الفيروسات والامراض الا اننا نجد البعض اليوم قد رجعوا إلى حياتهم العادية متجاهلين تحذيرات المختصين ومستهترين بالوباء رغم استمرار لإصابات والوفيات في مختلف الموجات إلّا أن حياة الكثير من المواطنين وممارساتهم اليومية تبدو طبيعية جدا رافضين فيها العودة إلى إجراءات التباعد أو حتى ارتداء الكمامة ولا وجود للإجراءات الاحترازية الصارمة في الاسواق ووسائط النقل وغيرها وهنالك التزام واضح في بعض المدارس والجامعات والوزارات والمؤسسات العامة والمساجد فيما يتعلق بالتباعد والالتزام بالكمامات
ولكن جميع هذه الإجراءات تبقى لا معنى لها ما دام المجتمع يتخلى عنها خارج المؤسسات التعليمية والدينية والإدارات حيث لم يعد قانون الدفاع في جانبه الصحي يجد الاحترام الذي كان في بداية الازمة بل الكارثة
أما الغريب في القضية كلها فهو حالة استمرار العزوف الغريبة عن تلقي اللقاح المتوفر في المراكز الصحية التي تحددها وزارة الصحة بشكل يومي تحت مبررات مختلفة وكأن اللقاح الذي تم إعداده في المختبرات على أيدي علماء وخبراء أصبح أخطر من الفيروس ذاته مع ان معظم الدراسات والبحوث والتجارب اثبتت علميا وعمليا أن الآثار الجانبية للقاح بسيطة جدا ان لم تكن معدمة
ومنذ بداية أزمة كورونا هناك بعض الأصوات التي أصرت أن تتعامل مع الأمر بدرجة مرعبة من تجاهل الحقائق العلمية معتمدة في ذلك على معلومات مغلوطة لا أساس علمي لها وقد تسبب ذلك في تفاقم الأزمة فضلا عن التسبب في مزيد من الوفيات والمصابين الذين كان من الممكن جدا إنقاذهم لو لم يحدث ذلك وهذه الأصوات هي من بدأت التعامل مع الموقف بتشبيه الإصابة بكورونا بالإصابة بالإنفلونزا داعية إلى تجاهل كل أو معظم الإجراءات الاستثنائية التي تفرضها الجائحة
وبعد ذلك انتقلت إلى الدعوة لفكرة الوصول للمناعة الجماعية عن طريق السماح للفيروس بالانتشار متجاهلة كل المخاطر المرعبة لهذه الاستراتيجية من زيادة أكيدة للوفيات وخصوصا بين المسنين والمصابين بالأمراض المزمنة ثم انتقلت إلى فكرة مناهضة استخدام الكمامة ومحاربة ارتدائها داخل الأماكن العامة بعدها انتقلت للتشكيك بفعالية اللقاحات فضلا عن تسلحهم بفكرة الحرية الشخصية كمنطلق لرفض أي سياسة من شأنها السيطرة على الجائحة في بلد كالأردن يقدس الحريات ودستوره مبني بالدرجة الأولى على احترامها
والسؤال هنا بعيدا عن الجدل القانوني هل من حقي لو أنا كنت بداخل منشأة حكومية أو إحدى وسائل المواصلات العامة أو طائرة أن أرفض ارتداء الكمامة تحت مبرر الحرية الشخصية وهل رفض اللقاح يؤثر فقط على صاحبه أم يمتد ضرره للآخرين المحبط هنا أن الدولة الآن لا تمتلك آليات السيطرة على ازمة المرض بشكل تام ولكن البعض مصر على تجاهل المخاطر والتصرف بشكل يتسم بالعناد والاستهتار الشديدين
وفي اتجاه اخر قام البعض بأطلاق شائعات لا أصل لها وغير مبنية على أي دليل علمي بغرض تخويف الناس منها وبعضها كان مضحك مثل أن اللقاحات ستغير من جيناتنا وهي فكرة لا أصل علمي لها على الإطلاق أو أن اللقاحات ستجعل الحكومات قادرة على تتبع الأفراد حيث تعمل كشريحة داخل الجسم وعلى قدر سخافة هذه الأفكار إلا أن كثيرين يتعاملون معها على أنها حقائق وهنا يطرح أكثر من تساؤل حول فشل حملات التوعية التي تقوم بها المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في إقناع الناس باللقاح مع أن البلدان الأخرى بلغت مستوياتٍ متقدمة جدا في التلقيح بما فيها بعض البلدان المجاورة لنا
نتذكر جيدا كيف تمكنت الكثير من دول العالم خلال فصل الصيف 2021 من بينها الاردن من رفع كامل تدابير الإغلاقات التي اتخذتها الحكومة خصوصًا مع توافر لقاحات كورونا وانتشار عمليات التطعيم بشكل واسع وهو ما منحنا قدرًا لا بأس به من التفاؤل لكن مع ظهور بعض المتحورات من الفيروس مثل متحور دلتا بلس أصابنا بعض القلق من عودة انتشار الفيروس
خصوصًا وأن بعض الدول عادت لأخذ بعض الاحتياطات وتنادت الى جرعة ثالثة معززة خاصة واننا على ابواب الشتاء وكورونا لا يتوقف عن التحور فهل سنشهد حالات إغلاق وتدابير قوية مرة أخرى مثلما حدث في الشتاء الماضي أم أن انتشار اللقاحات سيمنحنا إلى حد ما فصل شتاء طبيعي في ذلك يعزز انخفاض عدد الحالات المصابة تدريجيًا في هذا الصيف ويؤشر إلى أن عودة انتشار الفيروس في هذا الشتاء ربما لن تكون بقوة الشتاء الماضي نفسها
في هذا السياق يتفق العديد من خبراء الأمراض المعدية وعلم الأوبئة على أن شتاء عام 2022 سيشهد طفرة في انتشار حالات كورونا بين الناس وزيادة كبيرة ومتوقعة في أعداد الإصابات على الرغم من الزيادة السريعة في اللقاحات لكنهم في المقابل يختلفون حول مدى ما قد يستدعيه الأمر من اتخاذ إجراءات قوية من قبل الحكومات مرة أخرى فبعد تخفيف القيود في صيف عام 2020 أعيد تطبيق التدابير الاحترازية والإغلاق الشامل في كثير من الدول في فصل الشتاء
ولهذا فان مستوى الوفيات وعددها الناجمة عن انتشار فيروس كورونا مع دخول فصل الشتاء سيعتمد بشكل أساسي على عاملين الأول هو مستوى التطعيمات التي سنصل إليها بحلول ذلك الوقت والعامل الثاني يتوقف على مدى انتشار المتحورات الفيروسية الجديدة وهو ما يستلزم الكثير من الحذر والانتباه من قبل الجهات الصحية والمواطنين
اذا التلقيح هو طوق النجاة الوحيد المتوفر بين ايدينا من اجل كسر الدائرة المغلقة لمنع عودة انتشار كورونا ووقف استشراء العدوى بشكل وبائي والواقع على الأرض يقول إنه كلما تأخر تطعيم عدد أكبر من الناس فإن ذلك يزيد من فرص تحور الفيروس وتعدد الاصابات والوفيات وهو ما سيفاقم الأمر تعقيدا قد يقود في أي وقت إلى إجراءات حكومية احترازية أشد تعيدنا الى المربع الأول بغرض السيطرة على الموقف
التعامل اليومي مع هذا الوباء يشعرنا كما لو أننا نجري طوال الوقت بلهاث شديد وراء الفيروس دون اللحاق به ولهذا فان الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها وقف خطورته والقضاء عليه في وقت قياسي وبشكل كبير هي في رفع نسب التلقيح بمستوى ( اربعة ملايين ) شخص وخصوصًا من فئة كبار السن وطالما لم يتحقق هذا سنستمر في المراوحة داخل هذه الدائرة المهلكة والخطرة
وقبل الختام نقول هل حان الوقت لأن نتعامل مع تعاطي اللقاح باعتباره مسؤولية مجتمعية وليس مجرد قرار يقع داخل نطاق الحرية الشخصية فقط وذلك لعدم خروج الوضع عن السيطرة وحدوث ما لا تحمد عقباه لا قدر الله حتى يصل العلماء الى انتاج لقاح سحري ضد كل متحورات كورونا يخلص البشرية من هذا البلاء العظيم
بعد كل ذلك السرد الطويل ومع استمرار الرفض والعناد لدى البعض وتحريضهم الاخرين وتخويفهم من تلقي اللقاح والتشكيك في جدواه والتهويل من اعراضه يبدو أنه اصبح من الأولى تلقيح بعض هذه العقول بدل الاجساد بجرعة ( استثنائية من المطعوم ) حتى تشيع الثقافة الصحية بين الناس ويتخلوا عن الأفكار القاتلة التي تجعل الشخص يقبل بكل الأخطار المحتملة على حياته ويتخلى عن سبل الوقاية من الأمراض والأوبئة وإذا قيل له عليك بالتلقيح ضد كورونا تجده يجادل في جدوى اللقاح متسلحا بكل نظرات المؤامرة لإقناعك بصحة موقفه في رفضه اخذ اللقاح
mahdimubarak@gmail.com