بعد 10 سنوات على القطيعة يُظهر المشهد "مارثونا" أردنيا سوريا لوصل ما انقطع، وترميم العلاقات التي ظلت على الحافة تتأرجح ولم تنقطع، ويشي الاتصال العلني بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس السوري بشار الأسد - وهو الأول منذ عام 2011- عن الوصول لخط نهاية المارثون، وتدشين مرحلة جديدة من التفاهمات.
كل من يُراقب تسارع وتيرة العلاقات بين البلدين على مدار الأسابيع الماضية، ومنذ عودة الملك عبد الله من زيارته إلى واشنطن، يصل إلى استنتاج أن الأردن "حصان طروادة" الذي يعمل على تأهيل النظام السوري، وفتح الأبواب له للمرور إلى العالم.
لا يتحرك الأردن بمعزل عن تفاهمات غير مُعلنة مع واشنطن، وتنسيق حثيث مع موسكو، فالملك في لقائه الأخير مع الرئيس الأميركي بايدن طلب استثناء الأردن من عقوبات قانون قيصر، فأخذ تعهدات بـ "غض النظر" عنه بعد ترتيبات امتدت لتشمل الكونغرس.
تتسارع الإجراءات على أرض الواقع، وتتقدم لغة المصالح على المبادئ، وما كان مُحرما ومُستبعدا قبل سنوات، وحتى أشهر أصبح حقيقية؛ فوزير الدفاع السوري في عمّان، ووزراء الاقتصاد والتجارة، والموارد المائية، والزراعة، والكهرباء يبحثون مع نظرائهم حلولا للمشكلات والتحديات الكفيلة بالتقدم خطوات نحو المصالحة، وطي صفحة الماضي.
الهواجس والمخاوف الأردنية لن تتبدد بين ليلة وضحاها رغم تقدم لغة المصالح والمنافع، فالسلطات الأردنية تضع "فيتو" على تمدد واقتراب الميليشيات التابعة لإيران، أو حزب الله من حدوده، وتضع شروطا واضحة لذلك، وتربط هذا الملف بالإرهاب ومخاطره، والأمر الآخر الذي لا تتجاهله الحكومة الأردنية وأجهزتها الأمنية تزايد مخاطر تهريب المخدرات وتصنيعها في سوريا، خاصة في المناطق المُتاخمة لأراضيها، ولا ينسى الأردن حصته من مياه حوض اليرموك التي لا تلتزم السلطات السورية بتمريرها، وأخيرا يطفو على السطح ملف الطاقة وتنفيذ خط الغاز المصري، وتأهيل شبكة الكهرباء السورية لربطها بالأردن، ومنها إلى لبنان، وكل ذلك لا ينفصل عن الملف الأكثر جاذبية وهو "إعمار سوريا" الذي تُريد أن تتقاسم كعكته دول كثيرة.
استحضار التاريخ في العلاقات الأردنية السورية مُفيد ومثير لاستلهام الدروس، فالعلاقات ظلت بين مد وجزر طوال العقود الماضية، وقطيعة ما بعد "الربيع العربي"، والحرب الأهلية ليست استثناء، ففي أواخر السبعينيات وصل "شهر العسل" بين البلدين مرحلة السماح بالسفر بين دمشق وعمّان والعكس على الهوية ودون الحاجة إلى جواز السفر، وكانت توحي لمرحلة وحدوية مُتقدمة في عهد الزعيمين الراحلين، الملك الحسين، والرئيس حافظ الأسد.
حالة الوئام والانسجام لم تدُم طويلا، ومن خطابات التكامل والوحدة إلى حالة من الاحتراب والخصومة العلنية حتى أن جوازات السفر الأردنية خُتم عليها عبارة "دخول كل الدول ما عدا سوريا".
في كثير من التحالفات كان الأردن وسوريا على طرفي نقيض، فدمشق كانت خارج تحالف "مجلس التعاون العربي" الذي ضم العراق، ومصر، واليمن، والأردن، وفي المقابل سوريا كانت حاضرة في التحالف الدولي الذي قاد معركة تحرير الكويت، وعمّان كانت خارجه، وما بين كل ذلك كانت الرسائل المُشفرة بين العاصمتين مستمرة.
الراحل الملك الحسين كان حين يُريد مغازلة دمشق يختار زيد الرفاعي لرئاسة الحكومة، وحين يُريد الابتعاد عنها يعهد إلى مضر بدران بتولي سدة رئاسة الوزراء، وما كان حاضرا في السر كان يطفو في العلن، ففي القمة العربية في القاهرة عام 1996، حمل رئيس الوزراء عبد الكريم الكباريتي مع مدير المخابرات سميح البطيخي ما سُميّ بـ "الملف الأسود"، والذي اتهم سوريا وجهات تابعة لها بالتخطيط لـ "عمليات إرهابية" لتنفيذها على الأراضي الأردنية.
كل هذا التاريخ يبدو خلف ظهورنا الآن، والأردن يقود العربة لتثبيت شعار "تغيير سلوك النظام السوري" بعد أن ساد شعار "إسقاط النظام"، وعلى مسرح الأحداث فإن الخطوات تتسارع إلى أن يكون الرئيس بشار الأسد حاضرا في القمة العربية المُقبلة في الجزائر، لتكون المقدمة لتأهيله لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي.
"غض النظر" الأميركي عن خطوات الأردن بما فيها إعادة خطوط الطيران بين البلدين، تبدو مُراهنة على سيناريو سعي المنظومة العربية بقيادة التحالف الجديد -القاهرة، بغداد، عمّان- على استقطاب دمشق لتقليص النفوذ الإيراني، وهذا لن يتحقق إلا بمد الحبل لها، وتقديم حزمة حوافز اقتصادية، وأكثر ما "يفتح الشهية" كانت فكرة خط الغاز المصري إلى لبنان مرورا بدمشق، والربط الكهربائي من عمّان باتجاه دمشق وبيروت أيضا.
واشنطن تقول علنا لا توجد خطط لتطبيع العلاقات مع نظام وحكومة الرئيس بشار الأسد، ولا تُشجع الآخرين على ذلك، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كان وزير الخارجية السوري فيصل مقداد النجم الذي يصول ويجول، ويكسر التابوهات، والخطوط الحمراء في لقاءاته مع وزراء خارجية دول العالم، ويُكرس شرعية الأمر الواقع.
نحن على ما يبدو في الشوط الأخير من لعبة تأهيل النظام السوري، وإدارة بايدن تعود إلى سياسة سلفه أوباما في قيادة العربة من الخلف، وتجنب الصدامات المباشرة، والدرس الأفغاني كان قاسيا بما يكفي للتواري في الظل في الوقت الحاضر.
الأردن لم يقطع "شعرة معاوية" في العقد الماضي مع دمشق، وظلت السفارة السورية في عمّان مُشّرعة، وباستثناء حادثة طرد سفيرها السابق بهجت سليمان من عمّان، فقد كانت الأمور تسير بطريقها المُعتاد، وهذا لا يُخفي أن الأردن في مقدمة الدول المستضيفة للاجئين السوريين بعدد يصل إلى أكثر من مليون و300 ألف، وعلى أرضه تواجدت بعض رموز المعارضة، وإن تعمّدت عمّان أن لا تضع كل "بيضها" في سلة المعارضة السورية، ولذلك فإن المصالحة لن تتضمن شروطا على حساب اللاجئين، والوجوه البارزة للمعارضة في الأصل لا تُقيم في الأردن، وأغلبها في تركيا وأوروبا، وأميركا.
الائتلاف السوري المعارض لا ينسى التذكير أن إعادة بعض الدول لعلاقاتها مع النظام السوري قبول بسجل طويل من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي مارسها النظام بحق الشعب السوري حسب وصفه، وفي عمّان أصوات مرتفعة لا تُخفي غضبها من "الهرولة" للمصالحة مع دمشق في تناسٍ لمآسي السوريين، يُقابله أصوات كثيرة تحتفي بالمصالحة وتعتبرها انتصارا لسوريا ونظامه، وهزيمة للمؤامرة الكونية ضدها.
على الضفة الأخرى وبعيدا عن السياسة، والفريقين المُتنازعين على صفحات "السوشيل ميديا" في عمّان، فإن الأردنيين يمنون النفس بأن يعودوا إلى دمشق كل نهاية أسبوع؛ فهي أيسر وأسرع من ذهابهم إلى العقبة، وهناك يجدون فُسحة للتغيير، ويعودون مُحملين بـ "المونة" الأشهى والأكثر رُخصا.