مهدي مبارك عبد الله - أعلنت عائلة كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والقائد العسكري المتقاعد في بيان صدر عنها يوم الاثنين الماضي وفاته عن عمر ناهز الـ 84 عام بسبب مضاعفات اصابته بفيروس كوفيد 19 رغم تلقيه كامل التطعيمات الوقائية
رحل باول فيما سبقه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وبقيت سمعتهما ملطخة بعار الكذب إلى الأبد حين ارتبط اسميهما بتقديم كم هائل من الأدلة المفبركة حول امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل بهدف تبرير الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 حيث عمد باول بصفته وزير خارجية جورج بوش الابن إلى عرض معلومات خاطئة مدعمة بصور الأقمار الصناعية أمام اعضاء هيئة الأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي
زعم فيها ملاحقة ومراقبة الاستخبارات الامريكية لشحنة من مكونات تستخدم في تصنيع أسلحة بيولوجية وقنابل إشعاعية " قنابل قذرة " من النيجر في إفريقيا حتى وصولها إلى العراق وتخزينها في منشآت للتصنيع وقدم صوراً لتلك المواقع المزعومة وهي نفس المعلومات التي تبرأ منها كولن باول فيما بعد بقوله ( لقد كان خطأ رهيباً ووصمة سوف تظل مرتبطة بتاريخي المهني لقد كان مؤلماً ولا يزال مؤلماً حتى اليوم وسيظل مؤلماً حتى النهاية ) تلك هي الكلمات التي استخدمها باول لوصف ما قام به من تقديم معلومات مفبركة وأدلة لا أساس لها من الصحة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل رغم انه كوزير للخارجية وقتها ولم يكن دوره يستدعي أن يقوم بنفسه بعرض ذلك الملف الاستخباراتي
قبل بدء الحرب على العراق كانت هنالك حملات واسعة تروج امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل اضافة الى اطلاقها سيل من الوعود البراقة بتحويل العراق بعد الغزو إلى واحة للديمقراطية والتعددية لكنه في الواقع لم يتم العثور على اسلحة الدمار الشامل وتحول العراق بعد احتلاله إلى أكبر بؤرة للصراعات والاقتتال والعداوات الطائفية كما اصبح موطن للعنف ومنبع للإرهاب بشتى صوره واشكاله
الكل كان يعلم حينها بان باول ( صاحب كذبة القرن الشهيرة ) راوغ وهول وكذب عن وعي تام وسبق اصرار وتصميم في إفادته من على منبر الأمم المتحدة في الخامس من شباط عام 2003 حين أعلن أن بلاده تمتلك الأدلة القاطعة على إخفاء العراق أسلحة دمار شامل واعتباره ذلك مبرر وسبب كاف لتحريك الجيش الأمريكي لتخليص الانسانية من شرور هذا البلد ورئيسه كما طالب العالم تأييد امريكا في غزوها للعراق رغم المعارضة الشرسة لإدارة جورج بوش الابن وحليفته بريطانيا للغزو تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل سواء خارجياً أو حتى واشنطن ولندن
لاحقا اعتذر باول عما فعل وقال إنها كانت (هفوة منه وخطأ فظيعا سوف يظل في سجلاته ) إلى الأبد وبالتدقيق في الوقائع المتتابعة تبين جليا بأنه لم ( يخطئ فقط بل كذب عن قصد ) واختلق الأدلة الكاملة وقدم الحقائق الملفقة بصورة فجة منها ادعاءه ايضا بان الاستخبارات الأمريكية اعترضت محادثة هاتفية جرت بين ضباط عراقيين كانوا يتحدثون عن عمليات تفتيش وكالة الطاقة الذرية للمنشآت العراقية ويطالبون بعضهم بصرورة التخلص من الأسلحة المحرمة ذات القدرات التدميرية العالية كما ويظهر في المحادثة صوت أحد الضباط العراقيين يطلب من ضابطا آخر التأكد من التخلص من كل الأسلحة التي لا تريدها الأمم المتحدة بما فيها كل الخردوات والأسلحة المعطوبة المتراكمة في الأماكن المهجورة حتى لا تعطي انطباعا سيئا عن صورة العراق لدى المفتشين الدوليين
وقد اعتبر باول هذه المكالمة دليل قاطع وواضح على أن النظام العراقي باستجابته لتوصيات الأمم المتحدة يعني وجود اسلحة دمار شامل ممنوعة لديه وان الضباط العراقيين يحاولون إخفاء الاسلحة الأشد فتكا عن أعين العالم فيما تجاهل باول مرات عديدة كل التحذيرات الدولية والفرنسية خصوصا التي كانت تشكك في صدق ما كان يزعمه
بالاعتماد على هذا الكذب والتزوير المتعدد الجهات وبهذه الذريعة الباطلة احتلت أمريكا وبريطانيا في 20 آذار عام 2003 العراق واسقطتا نظام الرئيس صدام حسين وهو ما نجم عنه خسائر بشرية قدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين وخسائر مادية اخرى بتريليونات الدولارات فضلا عن انزلاق البلاد في دوامة العنف الطائفي التي لم تنتهي حتى اليوم
كولن باول خلال خدمته ابتكر ( نظرية عسكرية جديدة ) مفادها أنه على الولايات المتحدة أن تسعى خلال كل عملية عسكرية تقوم بها إلى ( تحديد مجموعة أهداف سياسية ) واضحة ومتزامنة مع الخطة العسكرية التي تهدف إلى تحقيقها بطريقة أكثر حسماً وقوة وسرعة ولهذا انتقد عام 1999 الغارات الجوية لحلف شمال الأطلسي على يوغسلافيا لأنها بحسب رأيه تناقضت مع مبادئ التدخل العسكري التي حددها وعقب غزو العراق للكويت كان من أنصار فكرة الاكتفاء بفرض العقوبات على بغداد كما عارض استخدام القوة لإزاحة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عن الحكم
لكنه عندما غادر منصبه وخلفته كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية انتشرت تقارير كثيرة عن وجود خلاف بينه والرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد حول قرار غزو العراق الذي قيل إن باول لم يكن متحمساً له ولهذا سارع للدافع عن قرار الغزو ولم يظهر أي ندم على عدم استقالته اعتراضاً عليه وفوق ذلك قال انا ( سعيد أن صدام حسين قد رحل وأن هذا النظام قد انتهى ) ورغم ذلك عندما كانت تحاصره الأسئلة حول مدى الفوضى والدمار الناجمين عن الغزو كان ينفعل ويقول مَن كان بإمكانه أن يتوقع كل تلك الفوضى بعد الغزو وتلك منه كانت ( كذبة بعد كذبة )
كثيرون ممن تعاملوا مع باول عن قرب خلال مشواره المهني العسكري والسياسي أجمعوا على أنه نادراً ما كان يتمسك بمواقفه المبدئية اويحترم التزاماته المهنية وهنا يأتي بنا التذكير بـ ( الكذبة الكبرى ووصمة العار الابدية ) التي ظلت تلاحقه منذ وقوعها في يوم 5 شباط 2003 وحتى وفاته في 18 تشرين الاول 2021
كما وصفوه بأنه كان يقدم الولاء الاعمى للرئيس على حساب أي شيء آخر وقد لعب دور كبير في إدارة دفة السياسية الأمريكية لخدمة أجندة ادارة الرئيس بوش على مدى السنوات الأربع من 2001 وحتى 2005 وهي السنوات التي شهدت غزو أفغانستان والعراق ومضاعفة ميزانية الجيش الأمريكي ليمارس دور ( شرطي العالم ) أو حسب وصف منتقديه ( بلطجي العالم ) كما عمل ايضا على تجميل وجه ادارة بوش الابن وبرر ما كانت تتخذه من قرارات أمام الداخل الأمريكي والعالم الخارجي وقد ظل على هذا النهج المتناقض حتى غادر منصبه
ولد كولن باول يوم 5 نيسان 1937 في نيويورك وحصل بأول على بكالوريوس في الجيولوجيا عام 1958 ثم خدم في العسكرية الأمريكية ووصل إلى المراتب العسكرية في زمن قياسي ثم تحول إلى السياسة ليصل أيضاً إلى أعلى مناصبها الدبلوماسية وزيراً للخارجية وقد تربى في بيئة شعبية في حي متعدد الأعراق وكان والده قد هاجر إلى الولايات المتحدة قادما من جامايكا
بدأت مسيرته المهنية في الخدمة العسكرية في فيتنام إلى أن اصبح في عام 2001 أول امريكي أسود يتولى منصب ( مستشار الأمن القومي ) في نهاية رئاسة رونالد ريغان وأصغر وأول رئيس لهيئة الأركان من أصل أفريقي يتولى مسؤولية كبيرة في الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الأب
وحتى الآن يعتبر باول الأمريكي الوحيد ذو الأصل الأفريقي الذي عمل في هيئة الأركان المشتركة أكبر ( هيئة عسكرية أمريكية ) فضلا عن أنه كان في عام 1989رئيسها طوال أربع سنوات أشرف خلالها على قيادة ادارة القوات الأمريكية في حرب الخليج الاولى والتي اخرجت القوات العراقية من الكويت عام 1991
شغل باول اول منصب لوزير خارجية أمريكي أسود في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن وقد لعب دورا بارزا مع العديد من الإدارات الجمهورية في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين وكان دائما يوصف بأنه جندي متميز نظرا لولائه المفرط
وقد ارتفعت شعبية واسهمه أمريكيا في أعقاب انتصار التحالف الدولي بقيادة امريكا خلال حرب الخليج في منتصف التسعينيات حتى غدى المنافس الرئيسي ليصبح أول رئيس أسود للولايات المتحدة قبل الرئيس السابق باراك اوباما
mahdimubarak@gmail.com