مهدي مبارك عبد الله - في موقع النصب التذكاري الذي اقيم في ميناء مدينة حيفا في 21 تشرين الثاني عام 1967 يحيي الكيان الاسرائيلي بحسرة بالغة في 21 تشرين الأول من كل عام ذكرى اغراق قتلاه في عملية ( المدمرة ايلات ) على يد القوات البحرية المصرية مقابل سواحل مدينة بور سعيد وهي عملية مختلفة تماماً عن تلك التي تم فيها إغراق 4 سفن نواقل وتفجير الرصيف الحربي لميناء إيلات الإسرائيلي
تعود الذاكرة الحية بنا الى ما بعد نكسة عام 1967 بعدما احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء المصرية والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة إضافة إلى مرتفعات الجولان السوري وهو ما جعل المنطقة على شفى الصراعات والمواجهات لسنوات طويلة ظلت فيها طبول الحرب تقرع وتكاد لا تهدأ عقب نشوب أي ازمة
في تلك المرحلة اشتدت جولات الهجمات والمعارك ضد مواقع الاحتلال الإسرائيلي واوقعت في قواته خسائر متعددة لكن أكثرها إيلاماً كانت حادثة إغراق المدمرة إيلات حيث كانت تجري استعراض للقوة والسيادة في البحر الابيض المتوسط قرب حدود مصر البحرية تلك العملية التي وصفت بالتاريخية على صعيد عمليات القتال البحري حيث كان لها صدى محلي ودولي كأكثر العمليات فتكاً بالجيش الإسرائيلي الذي كان وقتها يعتريه زهو القوة ونشوة السيطرة
بعد الانتصار الساحق الذي حققه الكيان الاسرائيلي على ثلاثة دول عربية ( مصر الاردن سوريا ) أرادات القوات البحرية تماديا في الاستفزاز والتحرش أن تثبت وجودها وسيادتها في تلك المناطق حيث قررت إجراء ( استعراض سيادة ) مقابل مدينة بور سعيد المصرية بدخول المدمرة إيلات ومعها بعض زوارق الطوربيد من نوع جولدن داخل مدى المدفعية الساحلية في بورسعيد وعندما تصدت لها زوارق الطوربيد المصرية فتحت إيلات على الزوارق وابلاً من النيران كما شاركت عدة قطع بحرية اخرى في عمليات الاستفزاز منها سفينة نيغا و يافا وإيلات وقد كان على متن المدمرة إيلات حينها قرابة 199 ضابط وجندي بحار قتل منهم عدد كبير وجرح آخرون
بعدما اكتشفت وحدات الرصد والمراقبة التابعة لسلاح البحرية المصري المدمرة على مقربة من المياه الإقليمية المصرية تم اعلام القيادة العليا والتي بدورها اعطت الضوء الأخضر لاستهدفها واغراقها وهي على بعد 20 كيلومتراً من شواطئ بورسعيد حيث أطلق عليها من الشاطئ بواسطة لنش حربي صاروخين من طراز ( كومر ) السوفيتية الصنع
وبعد ساعة ونصف أطلق صاروخين إضافيين وقد أصابت ثلاثة صواريخ المدمرة ما أدى إلى تعطل منظومتها واندلاع حريق هائل فيها ما اضطر قبطان السفينة بعد ذلك الى اتخاذ قرار حاسم بالتخلي عنها وإخراج الطاقم وهي تغرق في مياه البحر وهو ما أدى إلى مقتل 47 جنديا من طاقمها وجرح العشرات بسبب حمم اللهب المتواصلة التي حاصرتهم
تشير العديد من التقارير العسكرية المصرية الموثقة إلى أن أول صاروخ انطلق نحو المدمرة لم ينفجر لكنه أدى إلى تدمير بعض أجهزتها ثم اندلعت بسبب ذلك نيران هائلة وصلت الى صناديق الذخيرة التي بدأت بالانفجار فيما أدى إطلاق صواريخ اخرى إلى مقتل عدد من طاقم المدمرة وإغراقها بشكل كامل وهو ما وصفته اسرائيل بالكارثة الكبرى الت حلت بها انذاك
يقول ( شبتاي ليفي ) وهو ضابط سابق في سلاح البحرية الإسرائيلي وأحد الذين شاركوا في إخلاء قتلى وجرحى المدمرة إيلات بان الكثير من الإهمال من قبل المستوى السياسي الرفيع وخاصة من قبل ( موشي ديان ) وزير الدفاع في حينه الذي طلب من القوات البحرية الاسرائيلية القيام بدوريات في المناطق التي احتلت من مصر وهي ترفع علم إسرائيل مقابل السفن التي تحمل علم مصر قرب قناة السويس من أجل إثبات سيادتها وهذا بحد ذاته شكل استفزاز لكرامة الجنود المصريين
وهو ما دفعهم للانتقام من سفينة كانت مكشوفة في مرماهم واضاف ان هنالك سلسلة من الاخطاء تمثلت في سوء التخطيط العسكري وضعف الأدوات والإمكانات التي كانت في أيدي البحارة والتي لم تكن ملائمة للدفاع عن انفسهم في مثل هذه الهجمات فضلا عن عدم توفر منظومات مضادة للصواريخ في المدمرة حيث ساهمت جميعها وبشكل كبير في اغراق المدمرة حسب تقرير لجنة التحقيق الرسمية التي شكلتها اسرائيل بعد الحادثة والتي ترأّسها ( حاييم بار ليف ) الذي كان يعد في حينه أحد ابرز العسكريين المخضرمين في إسرائيل حيث شغل لفترة طويلة منصب نائب رئيس هيئة الأركان لجيش الاحتلال
اما الجندي ( موشي ليفي ) أحد شهود العيان على غرق المدمرة الإسرائيلية حيث كان ضمن طاقمها يوم الحادثة ويعمل في الوحدة المسؤولة عن تشغيل الرادار يقول كانت في البداية رحلة عادية وهادئة جداً ثم فجأة وبدون سابق إنذار سمعت صوت ( يتسحاق شوشان ) قبطان المدمرة يقول لقد استهدفنا بصاروخ ويدعو الطواقم إلى التأهب والاستنفار ثم حوطتنا كرات اللهب الحارقة والدخان الكثيف وانطلقت صافرات الإنذار وبدأت اصوات انفجار الصواريخ بوزن 500 كيلوغرام تتابع بشكل مرعب وهو ما أدى إلى انحراف ودوران المدمرة 180 درجة من شدتها
لم تكن القيادة العسكرية الاسرائيلية تعتقد أن المصريين قد يجرؤون او يغامرون باستهدافهم خاصة وانهم حاولوا في السابق استهداف بعض السفن الإسرائيلية لكنهم فشلوا في ذلك في هذه المرة عنصر المباغتة العاجل لم يمكن جنود البحارة العاملين على أجهزة الهجوم والدفاع العسكرية من اخذ مواقعهم وأن من أهم الاسباب التي اوقعت المدمرة ايلات في نيران القوات المصرية هو انها كانت تسيير بدون أي هدف وللاستعراض فقط في عملية لم تكن دفاعية ولا هجومية بل كانت مجرد نشاطات طبيعية وهذا كان عامل رئيسي في الفشل في حمياتها وتفاديها للهجوم
المدمرة الإسرائيلية ايلات صنعت في بريطانية وبدأت العمل رسمياً في قواتها عام 1944 ثم باعتها لإسرائيل عام 1955 حيث دخلت الخدمة في البحرية الاسرائيلية عام 1956 وقد شاركت في إغراق سفينتين تابعتين لسلاح البحرية المصرية مقابل شواطئ سيناء بعد شهر واحد من انتهاء حرب عام 1967 كما وسبق ان تعرضت المدمرة ايلات لعدة تهديدات مصرية متكررة قبل الحادثة التي حطّمت فيها الصواريخ محركاتها ودمرت منظومة الكهرباء على متنها وعطلت أجهزتنا اللاسلكية والدفاعية
بعد الهجوم بقيت المدمرة عالقة في عرض البحر دون أي إمكانية لإنفاذها او عودة ابحارها مرة أخرى وكذلك انقطع تواصلها مع القيادة العسكرية البحرية في حيفا والسياسية في تل أبيب بعدما اصبح كل ما عليها معطّل حتى الأفراد والضباط كانوا بين قتيل وجريح مذهولون من فرط الصدمات المتتالية وقد كانت توابع تلك كارثة الوخيمة ليس على البحرية الإسرائيلية فقط بل على الشعب الإسرائيلي بأكمله
هنالك معلومات سرية تسربت فيما بعد اكدت ان جهاز الاستخبارات الاسرائيلية في نفس يوم الاستهداف حصل على نحو 6 إنذارات تشير إلى نية مصر باستهداف المدمرة ولم تؤخذ على محمل الجد وهي معلومات كان من شأنها أن تمنع اغراقها والدمار الذي حل بها
ردت إسرائيل على هذه الحادثة بقصف معامل تكرير البترول في مدينة الزيتية بالسويس بنيران المدفعية كما حاولت ضرب السفن الحربية المصرية الراسية شمال خليج السويس وقد عجل حادث إغراق المدمرة إيلات بإسراع إسرائيل في بناء 12 زورق صواريخ من نوع ( سعر ) كانت قد تعاقدت عليها مع فرنسا
لقد كان إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات بواسطة 4 صواريخ بحرية سطح / سطح هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البحرية وقد اعتبرت حينها بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية واستراتيجيات القتال البحري في العالم فقد تم في هذه العملية تدمير مدمرة حربية كبيرة بلنش صواريخ صغير و للمرة الأولى في التاريخ
بعد نجاح المهمة صدر قرار جمهوري من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمنح كل الضباط والجنود الذين شاركوا في العملية أوسمه وأنواط عسكرية رفيعة وقد أصبح غرق المدمرة إيلات في يوم 21 تشرين الاول عام 1967 ( عيد وطني للقوات البحرية المصرية ) كما سجلت هذه المعركة ضمن أشهر المعارك البحرية في التاريخ وتم تصوير تلك الملحمة والبطولات في فيلم بعنوان ( الطريق إلى إيلات) وهو فيلم مصري روائي إنتج عام 1993 وتم إعادة بناء القصة وعرضها مره اخرى في فيلم قدم في العام 2004 يجسد عملية إغراق المدمرة إيلات تحت عنوان ( يوم الكرامة )
mahdimubarak@gmail.com