مهدي مبارك عبد الله - لم يكن مفاجئا للداخل او الخارج تسارع الاحداث في السودان صباح يوم الاثنين 25 تشرين الأول 2021 ووصول الى ما الت اليه من احداث مؤسفة فـ ( النار كانت تضطرم تحت الرماد منذ شهود بانتظار جذوة اشتعالها ) بعدما اغلق محتجون منذ نحو شهر مرفأ بورتسودان الرئيسي في شرق البلاد ونفذ مئات المحتجين الآخرين اعتصام منذ أسبوع قرب القصر الرئاسي للمطالبة بتشكيل حكومة جديدة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية
ومنذ 16 تشرين الأول الجاري يواصل أنصار تيار ( الميثاق الوطني ) أحد مكونات قوى التغيير والحرية اعتصامهم المفتوح أمام القصر الرئاسي بالخرطوم للمطالبة بحل الحكومة الانتقالية ناهيك عن التوتر والانقسام المتصاعدين منذ أسابيع بين المكونين ( العسكري والمدني في السلطة الانتقالية ) بسبب مجموعة انتقادات وجهتها قيادات عسكرية للقوى السياسية على خلفية إحباط محاولة انقلاب 21 أيلول الماضي من قبل الجيش السوداني المتهة قيادته اليوم بالمسؤولية عن إثارة الاضطراب في شرق السودان واستغلال الأزمات الطارئة للتحضير للعملية الانقلابية
اعتقال قوات الجيش وبعض عناصر الأجهزة الأمنية رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ( الاقتصادي التوافقي ) ووضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله وتشديد حراسته وممارسة الضغوط عليه لإصدار بيان مؤيد للانقلاب ثم اعتقال أغلبية أعضاء مجلس الوزراء السوداني وعدد كبير من قيادات الأحزاب المؤيدة للحكومة ( المكون المدني للائتلاف الحاكم ) اضافة الى عضو بارز بالمجلس السيادي وعدة قيادات وكوادر من أحزاب ( الائتلاف الحاكم والبعث العربي الاشتراكي والتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني وقوى التغيير ) من اماكن إقامتهم والذي شكل الصاعق العاجل في تفجير فتيل الازمة
في موازاة ذلك اندلعت احتجاجات في بعض مناطق الخرطوم أصيب خلالها العديد من الاشخاص تخللها حرق إطارات السيارات لقطع الطرق الرئيسية والحيلولة دون تمكن قوات الأمن من تجميع زخمها لتفريق الحشود وقد ردد المتظاهرون هتافات من قبيل بـ ( الروح بالدم نفديك يا سودان ولن يحكمنا البرهان ) كما شهدت العاصمة الخرطوم انقطاع في خدمات الإنترنت والاتصالات والكهرباء وتم كذلك وقف الملاحة الجوية في مطار الخرطوم وتعليق الرحلات الدولية واغلاق عدد من الجسور التي تربط ( الخرطوم بحري بالخرطوم ) في محاولة من الجيش لخنق العاصمة اضافة الى اقتحام مبنى التلفزيون واعتقال من عددً من العاملين فيه
كل ذلك وسط انتشار واسع وتعزيزات كبيرة لقوات للجيش الذي لا زال بمساندة من قوات الدعم السريع وبكل قواتهما يحاصران جموع المدنيين ويقيدان حركتهم في ظل تزايد الدعوات والمطالبات من قبل رئيس الوزراء حمدوك وتجمع المهنيين السودانيين ( أحد المحركين الأساسيين للاحتجاجات التي أسقطت الرئيس السابق عمر البشير عام 2019 ) للشعب السوداني وقواه الثورية للخروج إلى الشوارع واحتلالها وإغلاق كل الطرق بالمتاريس للدفاع عن ثورتهم
كما ت احزاب المؤتمر والأمة القومي والشيوعي وعدد اخر من الهيئات والاحزاب السودانية الجماهير بالاستعداد السلمي والمدني بكافة الوسائل المشروعة لمقاومة الانقلاب العسكري والاعتقالات والتصدي الشرس لـ ( سيطرة الجيش على الحكومة الانتقالية ) من خلال الإضراب العام عن العمل وعدم التعاون مع الانقلابين والبدء بالاعتصام المدني حتى إعادة العملية الانتقالية إلى مسارها الصحيح لأن كل ما قام به الجيش يشكل مخالفة صريحة للإعلان الدستوري والتطلعات الديمقراطية للشعب السوداني وهي غير مقبولة بتاتا
التطورات الأخيرة جاءت بعد يومين من تحذير قوى ( الحرية والتغيير) من احتمالية حدوث ما وصفته بـ ( الانقلاب الزاحف ) في البلاد حيث قال القيادي ياسر عرمان إن ( الأزمة الحالية ( مصنوعة على شكل انقلاب زاحف ) يأتي ضمن مخطط لصناع الفوضى وخنق الحكومة الانتقالية لأفشال الانتقال المدني الديمقراطي بعد ايهام المواطنين بوجود أزمة دستورية تهدد امن ومستقبل البلاد
شواهد كثيرة ومستمرة وواضحة سبقت الانقلاب الجاري الان كان آخرها محاولة صنع حركة ( حرية وتغيير بديلة ) من خلال قائد الائتلاف الحاكم بشقه المدني ومن الغريب تحركات الجيش جاءت بعد اجتماع البرهان مع المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الافريقي ( جفري فيلتمان ) الذي قدم في لقاءه قبل يومين للبرهان عدة مقترحات بناءة لتعزيز ( روح الشراكة ) والسعي لإخراج البلاد من أزمتها الراهنة
الشعب السوداني القومي والاسلامي بكل قواه الحية ليس راض عن دور واداء المجلس العسكري الانتقالي الذي بدء تباشير حكمه بعقد الصلح مع العدو الاسرائيلي والتنكر لحقوق الفلسطينيين ومعاداة مقاومتهم وطردها ولا يزال الكثيرون منهم يتذكرون مؤتمر الخرطوم عام 1967
وقرار ( اللاءات الثلاثة لا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضات مع اسرائيل ) ولهذا انطلقوا بوطنية عارمة وسليمة منضبطة ليقولوا ( لا لانقلاب البرهان ) في إشارة إلى ( رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ) الذي أطاح في العام 2019 بنظام الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم السودان لأكثر من ثلاثين عاماً بقبضة من حديد وذلك بعد انتفاضة شعبية عارمة استمرت شهوراً مكنته من تسلم السلطة
ومنذ اللحظات الاولى طالبت العديد من التيارات والتنظيمات والاحزاب السياسية قوى الثورة جميعاً ولجان المقاومة في كافة قرى وأرياف واحياء ومدن السودان للوقوف صفاً واحداً منيعاً لمقاومة هذا الانقلاب العسكري تحت أي مسمى كان أو من يقف خلفه وقد اكدوا رفضهم التام لتقويض الفترة الانتقالية واجراءات التحول المدني الديمقراطي والانقلاب على ( الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية ) وقد ادانوا بأشد العبارات الاعتقالات التي طالت القيادات السياسية والتنفيذية في الدولة
وتلبية للنداءات الوطنية المتكررة أعلنت اللجنة التي تسير اعمال اتحاد الطيارين السودانيين الإضراب العام والعصيان المدني كرد أولي على رفض الانقلاب العسكري والاجراءات التعسفية الاخيرة والتي ينظر إليها على أنها إطاحة من قبل العسكرية بالمدنيين
اعلان رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان مؤخر في بيان مقتضب حالة الطوارئ في جميع أنحاء السودان وحل مجلسي السيادة والوزراء وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية يعزز بشكل كبير المخاوف المحلية والدولية بان كل ما يجري هي خطوات اولية مبيته ومنظمة نحو الانقلاب العسكري المكتمل الاركان الذي بدأت تتضح معالمه أكثر
يشار إلى أن السودان يعيش منذ 21 آب عام 2019 فترة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024 ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الحكومة اتفاق سلام والذي بموجبه تم تشكيل سلطة تنفيذية من الطرفين على أن يتم تسليم الحكم لسلطة مدنية بعد اجراء انتخابات حرة في نهاية المرحلة الانتقالية
الحقيقة المرة وربما المرفوضة هي ان رئيس الوزراء السوداني حمدوك واليسار السوداني كانوا جميعا شركاء منذ البداية مع ( البرهان وحميدتي ) في جريمة وأد الثورة السودانية بقبولهم ان يكونوا الغطاء المدني لـ ( حكم عسكري تقليدي ذو نزعة سلطوية ) حيث وافق حمدوك على ان يكون مجرد ديكور تجميلي لسلطة العسكر المتوحشة وهو بذلك ساهم في ايهام الشعب السوداني وخداعه بأن ثمة تغيير مختلف قادم اليهم في الافق القريب
لكن ما حدث بكل بساطة ان العسكر وكعادتهم وكما حدث من قبل في بعض الدول العربية المجاورة اعطوا وعودا لمجموعة من المدنيين الطامحين بالحصول على المكاسب كطعم لإشراكهم في تقاسم الكعكة السياسية غير الناضجة وحينما حان الوقت وبعد اطمئنان حمدوك لنوايا البرهان الظاهرية اتت اللحظة الحاسمة والمتوقعة لاتخاذ الاجراءات التعسفية التي شملت حتى الان مجرد اعتقالات وغيرها وقد تتطور الامور لـ ( قتل أو حرق كل معارض ) للانقلاب حتى ولو كانوا من حلفائهم خاصة بعد استخدام عناصر الجيش الذخيرة الحية وسقوط عدد من القتلى بين المحتجين ( 7 أشخاص قتلوا بالرصاص وأصيب أكثر من 140 آخرين )
بقي ان نقول ان الكرة الان في ملعب الشعب السوداني بكل شرائحه واطيافه ومكوناته للخروج الى الشوارع ودعم الاحتجاجات لاسترجاع ( ثورته المسلوبة ) من ايدي العسكر واليسار ليحقق ارادته في اختياره ( سلطته المدنية الحقيقية ) القادرة على انتشال السودان من جحيم الاستبداد والتخلف ما امكنهم الى ذلك سبيلا
mahdimubarak@gmail.com