مهدي مبارك عبد الله - بتعليمات من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استدعى وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو الاسبوع الماضي سفراء 10 دول لدى أنقرة وهي ( ألمانيا والولايات المتحدة والدنمارك وفنلندا وفرنسا وهولندا والسويد وكندا والنرويج ونيوزيلندا ) لإبلاغهم بانهم أشخاص غير مرغوب فيهم بسبب اصدارهم بيان جماعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتعلق بوضع رجل الأعمال التركي ( عثمان كافالا ) 64 عام المعتقل بتهمة علاقاته مع منظمة غولن المصنفة إرهابية بتركيا وضلوعه في محاولة الانقلاب الفاشلة بالتعاون مع الضابط السابق في "CIA" هنري باركي عام 2016
بيان السفراء المعلن اكد في حيثياته بان القضية المستمرة بحق كافالا تلقي بظلالها على الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون في تركيا كما دعوا فيه إلى الإفراج الفوري عنه وهذا في الحقيقة لم يكن مفيدا لـ ( كافالا ) بل اضر به وفسر بانه تحدي لتركيا الدولة العريقة والمستقلة وذات السيادة التي ترفض الرضوخ لمطالب السفراء فهي ليست ( مستعمرة والسفراء ليسوا حكام مستعمرين لها )
الرئيس التركي اردوغان اعتبر ما اقدم عليه السفراء خرق كامل وبكل معنى الكلمة لمادة 41 من ( اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي تشترط احترام الدبلوماسيين لقوانين ولوائح الدولة المعتمدين لديها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة ) وبهذا فان المادة التاسعة منها تمنح تركيا ( الحق في ترحيلهم ) كما بين الرئيس التركي انهم بهذه التصرفات غير المسؤولة يريدون التدخل بالشؤون الداخلية للجمهورية التركية ولهذا يجب على هؤلاء السفراء معرفة تركيا وفهمها وإلا فعليهم مغادرة بلادنا فورا
واضاف ما قاموا به يعد اساءة كبيرة لنا جميعا ومن ( لا يحترم استقلالنا وقضاتنا ومدعينا العامين ومحامينا وكافة أعضاء جهازنا القضائي وحساسيات أمتنا لا يمكنه العيش بيننا بغض النظر عن لقبه وصفته ) وسوف نواصل الرد بالشكل المناسب على هؤلاء الذين يفسرون كالعادة لباقة تركيا على أنها ضعف طالما لم يقروا بخطئهم وذلك من اجل ( حماية شرف تركيا ) ودون أي رغبة في افتعال الخلافات اوخلق الازمات واننا نفهم تلك البيانات في سياق الحملات السياسية والاقتصادية والقضائية الجائرة ضد تركو التي تهدف الى تركيعها كبلد ( حر ومستقل ) وهوما لم نسمح به لأية دولة أي كانت
وهنا نتسأل من موقع المحايد وقياسا على الاحداث فقط اليس من واجب السفير الأمريكي في تركيا الذي يدعو إلى الإفراج الفوري عن المعتقل كافالا ان يبدأ بمطالبة بلاده بإجراء محاكمة لـ ( فتح الله غولن ) المتهم بمحاولة انقلاب 15 تموز الفاشلة والذي يستضاف مثل الملوك في ولاية بنسلفانيا رغم تقديم تركيا عددا كبيرا من الأدلة بحقه والتي لم يجر النظر فيها من وزارة العدل الأمريكية بطريقة هامشية وكذلك بلجيكا لا زالت ترفض تسلم المتهمة فخرية أردال الضالعة في اغتيال رجل الأعمال التركي أوزدمير صابانجي كما ترفض ألمانيا تسليم الهارب جان دوندار المدان بإفشاء أسرار الدولة وتلك الدول توفر لهم الحماية الكاملة
قرار طرد السفراء قد يستغرق 15 دقيقة ومغادرتهم مهلة 48 ساعة ولكن ذلك قد يكلف انقره 15 عاما لإعادة ترتيب العلاقات مرة أخرى ولهذا كان يجب البحث عن فرصة للحل التوافقي قبل هذا الإجراء سيما وأن ( قطع جسور التواصل ) مع تركيا هو مطلب العديد من الدول الغربية خاصة تلك التي تطالب بفرض العقوبات عليها تركيا وتحاول إخراجها من المجلس الأوروبي وتعليق مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وتنادي بسحب الأموال والمساعدات الممنوحة لها من الاتحاد الاوروبي
إجراءات طرد السفراء الـعشرة والتواصل مع دولهم بهذا الشأن لم تبدأ فعليا من قبل وزارة الخارجية التركية ولم يخرطوا رسميا بذلك وطل الامر معلق بانتظار قرار مجلس الوزراء التركي في اجتماعه المخصص لهذه الغاية والذي لم يفضل الاستعجال في اتخاذ القرار لان الأمر تجاوزت قضية ( عثمان كافالا ) الى تحولات خطيرة في الأزمة بين تركيا والعالم الغربي
بعد تدخل جهات عديدة للتوسط بين تركيا والبلدان الغربية لحل المشكلة حرصت تركيا طوال فترة الازمة على التروي وترك سياسة ( دبلوماسية الباب الخلفي ) مفتوحة لاحتواء الموقف مع العالم الغربي بالتحاور مع السفراء والاستماع لوجهة نظرهم وملاحظاتهم حول البيان ومحاولة اقناعهم للرجوع عنه والاعتراف بخطئهم من اجل وقف التفكير بطردهم قبل ( الضغط على زر تفجير ) أزمة قوية قد تستمر لفترة طويلة مع 10 دول متقدمة في العالم وتربطها علاقات اقتصادية وسياسية في مختلف الجوانب
تراجعت تركيا وحلفاؤها الغربيون اخيرا عن شفا أزمة دبلوماسية كاملة بعدما اعلنت السفارة الامريكية في انقر إنها تحترم القانون عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول وإنها تعلن مراعاتها للمادة 41 من اتفاقية فيينا و بعدها قامت سفارات ( كندا وفنلندا والدنمارك وهولندا والسويد والنرويج ونيوزيلندا ) بتركيا بإعادة تغريدة بيان السفارة الامريكية وهي الدول ذاتها التي كانت أنقرة تهدد بإعلان سفراءها غير مرغوب فيهم
على إثر ذلك أعلن الرئيس التركي أردوغان ترحيبه ببيان السفارات حول مراعاتها للمادة 41 من اتفاقية فيينا وطالب السفراء ان يكونون في المستقبل أكثر حذرا في بياناتهم وتصريحاتهم فيما يتعلق بحقوق تركيا السيادية وبذلك تم الرجوع خطوة إلى الوراء عن حالة الصدام المحتدمة واطفاء نيرانها المشتعلة
في الواقع أن لدى تركيا العديد من الخيارات الدبلوماسية التي يمكنها ممارستها كبديل بعد وقف الطرد والترحيل منها علة سبيل المثال ( التضييق على السفراء من خلال إعاقة أعمالهم وإلغاء المواعيد المحددة لهم وتجاهلها وعدم السماح لهم بحضور أي اجتماعات رسمية او مناسبات اهلية )
الرئيس اردوعان منذ البداية تحدث باللغة التي تفهمها هذه الدول وأظهرت تركيا موقفها الموحد ( حكومة ومعارضة ) بهذ الشأن حين فضلت أن تتصرف كدولة كبرى وبهدوء ووعي قبل اتخاذها أي موقف قد يضر بالعلاقات في معالجة موضوع السفراء الاجانب العشرة وذلك بإعطائهم فرصة اخيرة وتحذير شديد اللهجة بعدم تكرار الأمر من قبلهم ( حتى في زمن الحرب تمنح الدبلوماسية فرصة للعمل )
كما وضعت الخارجية التركية في حسابها بان قرار الطرد سيؤدي حصو الى انتقام فوري من دولهم خاصة وأن إدراج السفير الأمريكي بينهم سيوجه ضربة كبيرة جدا للعلاقات التركية- الأمريكية المتوترة والمهترئة اصلا ناهيك عن احتمالية طرد سفراء أنقرة من بلدانهم على أساس المعاملة بالمثل اضافة الى ان الدول العشر لديها روابط اقتصادية وسياسية قوية جدا مع تركيا ويقطنها مواطنون أتراك بشكل مكثف وحجم التجارة مرتفع ولذلك فإنه قبل اتخاذ أي قرار بترحيلهم يجب التفكير مليا في العواقب الاقتصادية والسياسية وفي ما يؤثر على تركيا بشكل أكبر في مردوده الشامل
كثير من السياسيين والمتابعين الاتراك وجدوا أن ردود فعل الرئيس أردوغان إزاء السفراء العشرة كانت غير تقليدية وقاسية ولكن في المقابل فإن مواقف هذه البلدان من السيادة الوطنية التركية أيضا كانت غير عادية كما علقوا على ان تصريحات أردوغان بانها كانت رسالة تهديد موجهة بالأساس إلى باقي الدول التي تحاول تغيير قواعد اللعبة في تركيا وان فيها كذلك اشارات واضحة إلى ما قد يذهب إليه اردوغان مستقبلا وقد كانوا يستبعدون اتخاذ أي اجراءات طرد ضد بحق السفراء العشرة
عثمان كافالا الذي تسبب بالأزمة الدبلوماسية بين تركيا و10 دول اوربية يوصف في الغرب بأنه ( ناشط حقوقي ورجل أعمال ) تركي ولد عام 1957 في باريس ودرس في كلية روبرت في إسطنبول وتخرج من قسم الاقتصاد في جامعة مانشيستر في نيويورك بعد وفاة والده تولى إدارة شركات مجموعة كافالا المملوكة للعائلة وأسس العديد من الشركات والجمعيات والمؤسسات حيث تفيد بعض المصادر بأن عدد الجمعيات التي كان يديرها أو يمولها تجاوز الـ 200 كانت تركزت نشاطاتها في شرق وجنوب شرق البلاد وقد أغلقت معظمها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة بعدما اتهم بعضها خاصة جمعية ( وقف الأناضول) بتمويل منظمة العمال الكردستاني كما أن كافالا يعد من إحدى الشخصيات البارزة في دعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي
وقد كان عضوا في إدارة العديد من المنظمات الدولية والاجتماعية والتجارية اتهم بالوقوف خلف أحداث ( غيزي بارك ) عام 2013 وقد قضت المحكمة الابتدائية ببراءته منها وفي 2017 اعتقل كافالا في مطار أتاتورك في إسطنبول بتهمة اتصاله مع جماعة غولن
قبل سنوات وصف البرلمان الأوروبي ومنظمة هيومن رايتس ووتش بالإضافة لجهات دولية اخرى قرار إعادة اعتقال كافلا بغير القانوني وانه يتجاهل حكما للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الذي طالب بإخلاء سبيله وفي عام 2020 صدرت لائحة اتهام بحقه لتورطه بمحاولة الانقلاب الاخيرة في تركيا وقد سبق ان هدد المجلس الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا في اجتماعه المقبل إذا لم يتم الإفراج عنه
وفي بداية شهر شباط عام 2021 طالبت الولايات المتحدة بالإفراج الفوري عن كافالا وقالت الخارجية الأمريكية إن التهم المضللة الموجهة له واستمرار احتجازه والتأخير المستمر في إنهاء محاكمته من خلال دمج قضايا جديدة ضده يشكل تقوض لاحترام سيادة القانون والعدالة والديمقراطية في تركيا
في المقابل ردت الخارجية التركية على التصريحات الأمريكية مؤكدة أن الإجراءات القضائية بحق بحقه تنظر من قبل محاكم مستقلة ويجب على الجميع أن يحترم هذه الإجراءات ويعلم بأن تركيا دولة قانون ولا يحق لأي دولة أو أي شخص إعطاء الأوامر للمحاكم التركية بشأن الإجراءات القضائية المتبعة فيها
وفي المحصلة رفضت المحكمة طلب الإفراج عنه وقررت بالإجماع استمرار احتجازه على أن تعقد جلسة أخرى في 26 تشرين الثاني المقبل للنظر قي قضيته فيما ينفي كافالا كل الاتهامات الموجهة اليه في ظل دعم دولي منقطع النظير
mahdimubarak@gmail.com