لم أكن أعرف مسبقاً عن زيارته غير المتوقعة، بالنسبة لي على الاقل، لم تتصل معي ادارة الجريدة، ولم أبلّغ أن الحسين سيكون ضيفاً على الدستور ذلك المساء من يوم 30/11/1988.
لم يكن عالم الاتصالات الرقمية متوفراً بعد، كان من الضروري لكاتب مثلي أن يذهب بنفسه إلى مقر الجريدة، لتسليم المقال يداً بيد، أو لكتابة ما أراه مناسباً في ذلك اليوم.
وصلت بوابة الجريدة، فإذا بالحراسات والنشاط والحركة تضج في المكان، سألت: شو القصة؟ شو الموضوع؟ خير إن شاء الله؟.
قال لي أبو سمرة رجل الاستعلامات: ألا تعرف؟ قلت لا! لا أعرف! قال: جلالة الملك سيزور الجريدة.
ولأني لست مدعواً، ويبدو أن خيار رئيس التحرير ألا أكون موجوداً، بدلالة أنه لم يُبلغني، لم يدعُني، رغم انني كاتب يومي، فقلت في نفسي ان الرجل نسي في غمرة انهماكه بالزيارة الملكية، أو نسي أن يخبر جميع كتّابه بالأمر، أو تعمّد عدم دعوتي عن سابق قصد، وهذا هو الارجح.
تركت مقالتي لدى مكتب رئيس التحرير، وتوجهت للمغادرة، غير ان الحرس الملكي منعوني، فعدت ادراجي الى مكتبي مضطراً.
عندما وصل الملك إلى الجريدة، دعينا لاستقباله في القاعة المخصصة للقاء الضيوف والحوار معهم، وهكذا كنت حيث لم يكن من المفروض أن أكون.
دخل الحسين القاعة مبتسما، وجلس على المنصة مع عبد السلام الطراونة رئيس التحرير، الذي رحب بجلالة الملك مزهواً فرحاً بقدوم الحسين إلى الدستور، وقال الكلام الذي يليق بالملك وصحبه
كان بمعية الملك: رئيس الوزراء زيد الرفاعي، ووزير الإعلام هاني الخصاونة.
تحدث الحسين بود، مثمناً دور الصحفيين في تعزيز الوعي، والنهوض بالمسؤولية الملقاة علينا، واداء المهام المطلوبة منا، وأثنى في غضون كلمته على الدور التاريخي للدستور وطاقمها.
شكره عبد السلام الطراونة مرة أخرى، وفتح المجال امام من يود السؤال، الاستفسار، اوتقديم مداخلة موجزة.
لم أكن أرغب في السؤال، أو الاستفسار، أو تقديم مداخلة، اذ ماذا يمكنني أن أقول للحسين أمام هذا الجمع؟؟ نظرت حولي، عن يميني وعن يساري، فلم أرَ احداً يرفع يده، فبادرت بلا تردد ورفعت يدي، وكنت المتحدث الأول، وقلت مباشرة: عفواً، أنا لم يسبق لي لقاء الملك، ولا أجيد استعمال مفردات الخطاب مع الملوك، لذلك لا أعرف أن أقول جلالتك، أو سيدي، فأنا لم أتعلم في هذه المدرسة.
كان وقع هذه الكلمات مذهلاً على الحضور، سيما رئيس التحرير ومن كان في معية الملك، الذين تميّزت وجوههم بسمات الانزعاج والغضب إلا الحسين وحده، فقد استقبل استهلال مداخلتي بمودة وقال: لا عليك، تفضل وتكلم بما تريد أن تسأل.
بالفعل وبلا تردد خاطبته بكلمةٍ عرّفتُ بها عن نفسي كواحد قضى سنوات في السجون، وقلت ما وددت قوله بهذه اللغة الحادة، غير الأنيقة، وربما غير المهذبة، وحينما انتبهُ الى مقام الملك، كنت أحاول أن أكون مهذباً، فأقول له حضرتك بدلاً من أنت.
تحدثت عن اضطهاد السياسيين، والاعتقالات، وقمع الكتاب، ومنع الفلسطينيين من النشاط والتعبير عن حالهم، ورد علي بتهذيب وسعة صدر، بلا أي كلمة قاسية أو مؤذية، واذكر انه رد عليّ قائلاً: كلنا اسرى مواقفنا، انت اسير موقفك ووجهة نظرك، وانا اسير موقفي وموقعي ومسؤوليتي، على العموم نحن في هذا البلد لا نزال، والحمد لله، نستطيع اجراء الحوار بيننا.
طلب الكلمة من بعده زيد الرفاعي فقسى عليّ، وطلب الكلام من بعده هاني الخصاونة، فقدم الاعتذار لجلالة الملك عن كلامي، واسفَ لوجود هكذا مواطن أو كاتب أو صحفي مثلي يتجاوز الحدود والمقامات.
عاد النقاش بين الزملاء والحسين، وقبل أن يُنهي، رفعت يدي مرة أخرى، وقال لي يبدو ان لديك تعليقا آخر، قلت لدي سؤال:
وسألته عن قمة ثلاثية حصلت قبل أسبوع في العقبة بينه وبين الرئيس ياسر عرفات والرئيس المصري حسني مبارك.
أجاب باحترام حول ذلك اللقاء، وتحدث عن أهمية الانتفاضة الفلسطينية، والواجب الأردني نحو فلسطين، فقلت له: والله يا جلالة الملك أنك كبير وعظيم ومحترم، دون من هم حولك.
ضحك وغادر المكان.
أعجبني الحسين وطريقة تعامله معي، بل وأسرني، فقررت تغيير مقالتي في ذلك المساء، وكتابة مقال آخر عنه، وعن زيارته للجريدة، وسلمت المادة لرئيس التحرير، الذي كان جالساً في مكتبه ومعه وزير الإعلام.
رد علي، أن أخذ المقال، ومزقه بدون أن يتطلع عليه، ورماه في السلة وقال: هذه الجريدة لم يعد لك مكان فيها بعد اليوم، وغادرت مفصولاً.
في صباح اليوم التالي، الساعة السابعة والنصف، ردت زوجتي على التلفون، وقالت لي ان واحداً اسمه أبو عبد الله على التلفون.
رددت على التلفون فإذا به الحسين، اعتذرت منه أن زوجتي لم تعرف من هو أبو عبد الله، قال مش مهم، أنا أقرأ مقالتك كل يوم، اليوم لا يوجد لك مقال، خير.
قلت لقد فصلوني من الجريدة، فسألني: لماذا؟ قلت بسببك! قال: هل تسمح لي بالتدخل.
تصوروا الحسين بمكانته، طلب مني التدخل لإعادتي لموقعي في الجريدة، وهذا ما كان، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة مع الحسين، لا يتسع لها المجال، الا انه يمكنني القول باعتزاز، انها كانت رحلة تسودها علاقة قائمة على الود والاحترام وخدمة بلدنا كما يجب، وكما يستحق.