مهدي مبارك عبد الله - لم يترك جهاز المخابرات الإسرائيلي ( الموساد ) موطئ قدم في العالم إلا لطخه بالجريمة و الدماء أو بعمليات التجسس والملاحقات والاختطاف وسرعان في كل مرة ما كان يخرج الساسة الإسرائيليون يتبرؤون من تلك الافعال المشينة مدعين عدم صلتهم بها
فضيحة التجسس التي هزت العالم مؤخراً لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة فبرنامج التجسس إسرائيلي الصنع المسمى بيغاسوس عاد ليتصدر عناوين الأخبار من جديد في فضيحة شملت اختراق أكثر من 50 ألف هاتف محمول حول العالم ضمنهم صحفيون ونشطاء حقوقيون وشخصيات سياسية وعسكرية ورؤساء حكومات بل وزعماء وقادة دول
إسرائيل تعد كيان رائد في العالم في مجال تكنولوجيا التجسس وقد تجاوزت في ذلك قوى وأقطاباً عالمية ويعتبر هاجسها الأمني والعسكري المحفز الأساسي والمحرك الرئيسي لتطويرها منظومتها الرقمية والتكنولوجية لتحقيق تفوق تجسسي على أعدائها في المنطقة والعالم من دول وأفراد وبهذا تمكنت من توسيع نفوذها الاستخباراتية في عدة دول لتتحكم في مسارات اتخاذها للقرارات وتلعب دوراً مهماً في سياساتها الداخلية
وضمن خطى التطبيع الأخيرة اتجهت بعض البلدان العربية إلى التعاون السري الوثيق مع إسرائيل في مجال الأمن المعلوماتي والتحري الاستخباراتي للوصول إلى بيانات بعض المستهدفين من المعارضين والمطلوبين وان عمليات التجسس بواسطة لتكنولوجية الاسرائيلية تضمنت اختراق هواتف لشخصيات اعتبارية عالية المستوى مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وغيرهم الكثير
جاءت فضيحة التجسس الدولية لتؤكد صورة دولة الاحتلال الإسرائيلي البشعة في انتهاك حقوق الإنسان ليس الإنسان الفلسطيني وحسب بل ( الإنسان حول العالم ) بعدما اصبحت إسرائيل تصدير البرامج الخبيثة التي تستعملها الحكومات وبعض الجهات الأخرى للتجسس وانتهاك خصوصية المستخدمين ففي داخل إسرائيل تنشط مجموعة من الشركات التكنولوجية الأكثر شهرة حول العالم في مجال إنتاج البرامج التجسسية الخبيثة مثل شركة NSOالمصنعة برنامج بيغاسوس ذائع الصيت السيء وشركة كانديرو ( نسبة إلى سمكة كانديرو سيئة السمعة التي تقطن نهر أمازون وتمتاز بقدرة على اختراق جسم الإنسان من المجاري التناسلية ) حيث يعمل فيها العديد من ضباط وحدة الهجمات الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي المعروفة باسم الوحدة 8200
وعلى الرغم من أن هذه الشركات تعتبر كيانات خاصة الا انه لا يمكن إسقاط مسؤولية الحكومة الإسرائيلية عن بيع مثل هذه البرمجيات وما ينتج عنها من اختراقات وانتهاكات لحقوق المستخدمين المدنية فهذه البرمجيات هي أسلحة من حيث المبدأ ولكنها أسلحة إلكترونية ولذلك فهي يجب ان تخضع مثلها مثل الأسلحة التقليدية لإجراءات صارمة في أثناء إبرام عقود البيع وموافقات امنية متعددة المستويات فالحكومة الإسرائيلية يجب أن تمنح الموافقة لبدء هذه الشركات إجراء مفاوضات البيع مع العملاء ومن ثم تمنح موافقة ثانية عند التوصل إلى اتفاق بين هذه الشركات والعميل وأخيراً تمنح موافقة عند إبرام البيع والتسليم
لذلك فإن الحكومة الإسرائيلية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن جميع ما ينجم عن هذه البرمجيات من انتهاكات لحقوق الإنسان ولكن نظراً إلى غياب نظام رقابة دولي صارم في ما يخص الجرائم الإلكترونية التي تنفذ برعاية الحكومات فإن إسرائيل سرعان ما تجد السبل للإفلات من المسؤولية
رغم انها هي التي تمنح هذه الموافقات عن طرف وجنب ولا تعطي أي اهتمام إطلاق لقيم حقوق الإنسان والخصوصية وإن ما ما يهمها هو الربح خصوصاً أن العائدات الناجمة عن بيع مثل هذه البرمجيات عالٍ جداً فدولة مثل غانا كانت قد دفعت مبلغ 8 ملايين دولار لشركة ( ان اس او ) الإسرائيلية من اجل أن تتجسس على 25 هاتفاً فقط لشخصيات معارضة للنظام في حين دفعت المكسيك مبلغاً قدره 32 مليون دولار لكي تتجسس على 500 مستخدم أما دولة بنما فقد دفعت مبلغ 13.4 مليون دولار لكي تتجسس على 150 مستخدم
أمام استفحال شهية الارباح المالية الضخمة تتضاءل المسؤولية الأخلاقية لإسرائيل في بيع مثل هذه البرمجيات ليس هذا وحسب فإسرائيل ايضا تستخدم هذه البرمجيات كأوراق مهمة في جعبتها الدبلوماسية فخارطة الدول التي كشفت عنها فضيحة بيغاسوس مؤخراً تظهر العديد من الدول التي سعت إسرائيل من أجل تحسين أو تطبيع علاقتها الدبلوماسية معها مثل المغرب والهند والإمارات وغيرها
ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نتنياهو كان يعمل كأنه مندوب تسويق لهذه الشركات عند هذه الدول ففي نهاية المطاف ما يهم إسرائيل ليس حقوق الإنسان بل الاعتراف الدبلوماسي فمنذ قيامها تعاني إسرائيل من عقد النقص المتعلقة باعتراف العالم بها وقد سعت من أجل تحسين أو تطبيع علاقتها الدبلوماسية معها ولذلك فإنها مستعدة لبيع جميع التقنيات الخبيثة لديها لأي جهة مستعدة للاعتراف بها بغض النظر عن التبعات الأخلاقية الناجمة عن مثل هذه البرمجيات
وعند الحديث عن الضرر الأخلاقي لهذه البرمجيات فإنها تتعدى مجرد التنصت على المستخدم من خلال اختراق جهازه فجمع المعلومات عن المستخدم لا يتطلب ابتياع مثل هذه البرمجيات عالية التكلفة وإنما يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك إلى تهديد الأرواح بشكل مباشر فكلنا يتذكر حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول وكيف انطلقت شهرة برنامج بيغاسوس منذ هذه الحادثة إذ تم تعقب هاتف خاشقجي عبر هذه التقنية وكذلك بعض الشخصيات المقربة منه مثل المعارض السعودي عمر عبد العزيز المقيم في كندا ووضاح خنفر مدير عام شبكة الجزيرة سابقاً و كذلك خديجة خطيبة خاشقجي
الحكومة الإسرائيلية وكيانات إنفاذ القانون في العديد من الدول تتذرع بأن هذه البرمجيات ضرورية لتحقيق الأمن والحفاظ على حياة الناس وهي منتَجة لمكافحة المجرمين والإرهابيين والخطورة تكمن هنا في التعريف الضبابي لمفهوم الارهاب فقد رأينا مؤخراً أن الكثير من الحكومات قد أدخل ضمن تعريفاته للإرهاب ( المعارضين السياسيين ) لها وهذا الأمر لا يتعلق بالحكومات المتسلطة وحسب بل وصل الى الحكومات الأكثر ليبرالية في العالم كحكومة الولايات المتحدة الأمريكية التي صنفت إبان ولاية الرئيس دونالد ترمب ناشطي حركة Black Lives Matter بأنهم إرهابيون ينبغي قمعهم
ومع تنامي سياسة الهوية فإن توسيع دائرة وصم الآخر بالإرهاب تتسع ويصبح بالتالي ضرر هذه البرمجيات خطيراً فتنامي الإسلاموفوبيا في الغرب يدخِل جميع المسلمين هناك في دائرة الاستهداف ويصبح اختراق خصوصياتهم أمراً مشروعاً لدى هذه الجهات والأمر لا يقتصر على الغرب وحسب فالصين على سبيل المثال تتبع مجموعة من أنظم التجسس الأكثر فاعلية في العالم للتضييق على أقلية الأويغور المسلمة من أجل ردعهم عن ممارسة حقهم الديني الذي كفلته جميع الشرائع السماوية والأرضية ومن هنا يتضح حجم الخطر الذي تمثله إسرائيل في هذا المجال وضرورة وضع حد لها قبل أن يصبح العالم اجمع عرضة للتجسس الإسرائيلي خاصة الدول العربية ذات الجدران الهشة وغير الكافية من الحماية الإلكترونية المتقدمة
كشفت منظَّمة ( فوربيدن ستوريز ) غير الحكومية ومعها منصات إعلامية أخرى مشاركة في تحقيق تسريبات نظام التجسس الرقمي بيغاسوس الاسرائيلي الصنع عن ورود أرقام هواتف عدد من قادة الدول ومسؤوليها الحكوميين رفيعي المستوى حيث أشارت البيانات المسربة الى أرقام عشرة رؤساء وزارة ثلاثة منهم لا يزالون في مناصبهم والحديث هنا عن كل من رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي ونظيره المغربي سعد الدين العثماني والباكستاني عمران خان أما السبعة الباقون فرؤساء وزارة سابقون بينهم ثلاثة عرب وهم اللبناني سعد الحريري والجزائري نور الدين بدوي واليمني أحمد عبيد بن دغر
اضافة الى ثلاثة رؤساء دول وملك منهم الرئيس العراقي برهم صالح ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إضافة إلى الفرنسي إدوارد فيليب والكازاخي باكيتشان ساجينتاييف والأوغندي روهاكانا روغوندا ورئيس الوزراء البلجيكي السابق شارل ميشيل الذي يشغل حالياً منصب رئيس المجلس الأوروبي والجنوب إفريقي سيريل رامافوزا وكذلك ملك المغرب محمد السادس وأفراد من عائلته جميعهم وردوا كأهداف محتملة لنظام التجسس المطور إسرائيلياً مما يعيد إلى الواجهة من جديد هاجس الحماية الرقمية لأصحاب المناصب الرفيعة وأي إجراءات سوف تتخذها تلك الحكومات من أجل تعزيزها
ومن ناحية تعزيز الإجراءات الأمنية لحماية خصوصية هؤلاء القادة تبقى فرنسا الوحيدة حتى كتابة هذه السطور التي كشفت عن إجراءات تقنية لتأمين مسؤوليها المستهدفين ببرنامج بيغاسوس وتعديل إجراءات الأمن الرقمي للرئيس وتشديد التحصينات السيبرانية لأجهزته من أي اختراقات محتمَلة بالموازاة مع فتح تحقيق جنائي لتحديد مدى صحة الواقعة وكشف ملابساتها وضمن هذه الإجراءات كان تغيير واحد من هواتف ماكرون النقالة واعطائه أرقام هواتف جديدة كما قدمت الوكالة الدولية لحماية الأنظمة المعلوماتية للأشخاص المحتمل تعرّضهم لاختراق بيغاسوس بروتوكولًا مشدداً للمرافقة الأمنية
يعد بيغاسوس أحد أقوى منظومات التجسس الرقمية وأخترها عالميا لكونه يستهدف بشكل خاص الأجهزة الذكية ويجد منه نسخة لأجهزة أندرويد لكن تبقى شركة آبل الأكثر تضرراً منه إذ يستهدف أنظمة تشغيل تلك الهواتف ويحكِم قبضته عليها عند اكتمال عملية الاختراق حيث يتحكم بمايكروفون وكاميرا الهاتف كما يتمكن من الدخول وجمع كل البيانات التي يحملها الهاتف ويمكنه تحديد موقعه والتنصت على كل محادثات صاحبه
وقد اكتشف برنامج التجسس الاسرائيلي أول مرة سنة 2016 بعد محاولة فاشلة لتنصيبه على هاتف آيفون لناشط حقوقي إماراتي من خلال رابط مشبوه في رسالة نصية إذ كشف التحقيق تفاصيل عن البرنامج وإمكانياته والثغرات الأمنية التي يستغلها وهو ما يجعل خطورة نظام بيغاسوس عالية ويجعله صعب الرصد والاكتشاف والحماية منه شبه مستحيلة بالوسائل التقنية التقليدية لحماية البيانات
mahdimubarak@gmail.com
.