مهدي مبارك عبد الله - بعميق الحزن والاسى ولوعة الالم والفراق أعلن رئيس جمهورية جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا يوم الأحد الماضي في بيان صادر عن الرئاسة اخر التعازي القلبية بوفاة المطران الأنغليكاني ( ديزموند مبيلو توتو ) عن عمر ناهز 90 عام في أحد مستشفيات مدينة الكاب بعد تراجع وضعه الصحي نتيجة صراعه الطويل مع مرض سرطان البروستات دام أكثر من 20 سنة لكن على الأرجح ان وفاته كانت طبيعية بسبب الشيخوخة وقد جاءت بعد شهر واحد من رحيل ( فريدريك دي كليرك ) آخر رؤساء جنوب إفريقيا البيض خلال حقبة الفصل العنصري والذي توفي عن عمر ناهز 85 عام
الاسقف الراحل توتو كان زعيماً روحياً مبدعاً من جيل الرواد العظماء المتميزين الذين تركوا جنوب إفريقيا محررة وقد كان أبناء بلده يسمونه تحببا ( ذي أرتش ) حيث تميز بذكاء استثنائي ونزاهة مؤثرة واستقامة وقوة حيث امضى حياة صعبة وقاسية في التنديد بالظلم والدفاع عن المظلومين وفد كان ايضا مناضلا وبطلاً حقيقياً في مكافحة نظام الفصل العنصري ( الأبارتايد ) الذي استمر في جنوب إفريقيا من عام 1948 وحتى 1991 وقد بقي حتى الساعات الأخيرة من حياته على قدر كبير من الرأفة والصراحة والطيبة في تعاطفه مع الذين كابدوا القمع والاضطهاد والعنف والظلم بدءها من أرصفة المقاومة في جنوب إفريقيا إلى منابر الكاتدرائيات العظيمة ودور العبادة في العالم اجمع
في أعقاب إعلان نبأ وفاته أقيمت صلاة في كاتدرائية القديس جورج التي كان راعيا لها سابقاً. وبدأ معزون من الأعراق كافة يتوافدون إلى منزله في الكاب حاملين باقات من الورد وتوجه آخرون إلى منزله في سويتو المنطقة الفقيرة في جوهانسبرغ كما وضع لاعبو فريق الكريكيت الجنوب إفريقي شارة سوداء على أذرعهم حداداً على رحيله في اليوم الأول من مباراتهم المهمة مع الفريق الهندي
كما قال كبير الأساقفة الأنغليكان تابو ماخوبا نبكي اليوم على رحيله نيابة عن رعايا كنيسته وعن ملايين الأشخاص في جنوب إفريقيا والقارة الإفريقية والمعمورة وأن علينا كمسيحيين ومؤمنين الاحتفاء بمسيرة رجل عميق الإيمان كان تركيزه الأول والأخير على علاقته مع الخالق ولم يكن يخشى أحداً وكان يندد بالأنظمة التي تحطّ من شأن الإنسانية وان خسارته لا تعوض
وسرعان ما توالت بعض ردود الافعال الدولية حيث شاد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بقيادته الفكرية وروح الدعابة التي لا تقهر لديه أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرح في تغريدة له أن ( نضال ديزموند توتو وضع حد لنظام الفصل العنصري وعمل على اصلاح ذات البين في جنوب إفريقيا وكرس حياته للمنافحة عن حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب ولهذا سيبقى حيا في ذاكرة شعبه والعالم ) ووضع حد لنظام الفصل العنصري وعمل على اصلاح ذات البين في جنوب إفريقيا وكرس حياته للمنافحة عن حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب ولهذا سيبقى حيا في ذاكرة شعبه الكثيرين في والعالم
لا شك بان توتو كان رجلاً استثنائياً وحياته كانت بركة بالنسبة لكثيرين في جنوب إفريقيا والعالم كشخص رائع ومفكر وقائد وراعي صالح ومدافع عالمي عن حقوق الإنسان ووطنيا لا نظير له وصاحب مبدأ وبراغماتية أعطى معنى للتصور الإنجيلي بأن الإيمان بدون عمل هو إيمان ميت
ولد ديسموند توتو في 7 تشرين الأول 1931 لعائلة متواضعة في بلدة كليركسدورب الصغيرة الغنية بالمناجم في جنوب غرب جوهانسبيرغ وقد أصيب خلال طفولته بشلل الأطفال وكان يحلم بأن يصبح طبيباً لكنه تخلى عن هذا الطموح لنقص الإمكانيات وقد أصبح مدرساً قبل أن يستقيل احتجاجاً على التعليم المتدني المخصص للسود ودخوله إلى الكنيسة في سن الثلاثين
درس في بريطانيا وليسوتو ثم استقر في جوهانسبرغ في تلك الفترة وفي أسوأ أوقات الفصل العنصري نظم مسيرات سلمية ودعا إلى فرض عقوبات دولية على نظام بريتوريا ولم يحمه من السجن سوى كونه رجل دين
ترسم توتو كاهناً في عام 1960 ثم عمل أسقفاً في ليسوتو خلال الفترة 1967 - 1978 ثم مساعداً لأسقف جوهانسبرغ وخادم رعية في سويتو وأصبح أسقفاً لمدينة جوهانسبرغ في عام 1985 وعين أول رئيس أساقفة أسود لمدينة كيب تاون واستخدم منصبه الرفيع للحديث ضد اضطهاد السود قائلاً بإن دوافعه دينية وليست سياسية ثم عين رئيساً لأساقفة كيب تاون وللطائفة الأنغليكانية في بلده وقد كان متزوجاً منذ 1955 من رفيقة حياته ليا وأنجب أربعة أطفال
بعد ذلك تصدى لتجاوزات حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بدءاً من أخطاء الرئيس السابق ثابو مبيكي في محاربة الإيدز حتى أنه وعد في عام 2013 بعدم التصويت أبداً للحزب الذي انتصر على الفصل العنصري
الراحل توتو خدم الإنسانية وقضاياها وكافح ضد الفصل العنصري التي فرضتها حكومة الأقلية البيضاء على الأغلبية السوداء كما نشط في مجال حقوق الانسان ودافع عن المضطهدين والمظلومين والمسحوقين حول العالم فاستحق بجدارة نيل العديد من الجوائز العالمية مثل جائزة نوبل للسلام في عام 1984 عن دوره في الكفاح السلمي من أجل إلغاء نظام الفصل العنصري والذي بعد عشر سنوات شهد نهايته اضاقة الى جائزة ألبرت شويزير للإنسانية والحرية وجائزة غاندي للسلام ليتوج كأحد أكثر شخصيات جنوب أفريقيا شهرة في الداخل والخارج
سيحفظ الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة للراحل توتو بكل وفاء وامتنان كبيرين مواقفه المؤيدة للشعب الفلسطيني ونضاله ضد مشروع الاحتلال وسياسته العنصرية خلال ترأسه للبعثة التابعة لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان لتقصي الحقائق عن عمليات الاحتلال العسكرية في العام 2006
في العام 2009 عندما كان عضواً في مجموعة الحكماء قال في احدى مداخلاته الشفهية إن الفلسطينيين يدفعون ثمن المحرقة اليهودية إبان الحكم النازي وإن إسرائيل لن تحصل أبداً على الأمن والاستقرار بواسطة الحصار والأسوار والبنادق كما أبدى تعاطفاً ومساندة لأقلية مسلمي الروهينغا وانتقد القمع الذي يتعرضون له من قبل السلطات الحاكمة في ميانمار ودعا لإنهاء العنف والاضطهاد ضدهم
بعد أن أصبح نيلسون مانديلا ( رمز الكفاح ضد نظام الفصل العنصري ) والذي بعد 27 عام من السجن اصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا في عام 1994 وبعد عام ونصف من توليه الرئاسة وتحديدا في 30 حزيران 1991 ألغي نظام الفصل العنصري رسميا في جنوب افريقيا
في تلك المرحلة عين توتو رئيسا للجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلت للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها البيض والسود خلال فترة الفصل العنصري وينسب إليه الفضل أيضاً في ابتكار مصطلح أمة قوس قزح في جنوب أفريقيا ما بعد حقبة نظام الفصل العنصري لكنه في سنواته الأخيرة لعدم تحقق حلمه بأن تصبح جنوب إفريقيا ( أمة قوس قزح ) في إشارة إلى تعدد الألوان والأجناس اضافة الى الأغلبية السوداء حصلت على حق التصويت فعلا لكنها بقيت فقيرة إلى حد كبير
وعلى الرغم من تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا في 1997 ودخوله عدة مرات للمستشفى لم ينسحب من الحياة العامة إلا بشكل تدريجي وبقي بحيويته الاستثنائية حيث تقاسم حساباً على تويتر مع ابنته مفو التي تدير مؤسسته ليظل من خلاله على تواصل مع متابعيه
تقاعد توتو منذ عام 2010 وكان آخر ظهور علني له في أيار الماضي عندما تم تطعيمه ضد كورونا من على كرسي متحرك ابتسم ووجه تحية عن بعد للحضور دون أن يتحدث إلى الصحافيين
ختاما ندعو الله أن يلهم شعب جنوب افريقيا وعائلة الفقيد الكريمة وجميع محبيه في العالم جميل الصبر وحسن العزاء
mahdimubarak@gmail.com