مهدي مبارك عبد الله - تعتبر غزة احدى المدن المسيحية القديمة المشهورة حيث بنى فيها القديس هيلاريون أول دير في فلسطين سنة 329 ميلادية وتذكر الروايات ان المسيح ووالدته مريم عليهما السلام و يوسف النجار استراحوا في غزة خلال رحلة اللجوء إلى مصر واليوم تحتضن غزة ثالث اقدم كنيسة في فلسطين بعد كنيستي المهد في بيت لحم والقيامة في القدس هي كنيسة ( القديس برفيروس ) التي بنيت في القرن الرابع ميلادي
خلال الاحتفالات بعيد ميلاد السيد المسيح عليه افضل السلام والأعياد المجيدة للعام الماضي 2021 قام الاحتلال الصهيوني بمنع مئات من المسيحيين في قطاع غزة من التنقل والحركة والدخول لزيارة الأماكن المقدسة في بيت لحم مسقط رأس يسوع المسيح والناصرة والقدس المحتلة للمشاركة في ممارسة وأداء الشعائر الدينية الأمر الذي بث مشاعر خيبة الأمل والإحباط بين مسيحيي غزة اضافة الى رفض سلطات الاحتلال منح بعضهم اذن لزيارة أقاربهم الذين انتقلوا للعيش في الضفة الغربية والقدس ومنهم من يتم منعه من السفر بدون سبب وفقا لما إفاد به الاب ( يوسف أسعد ) مساعد راعي كنيسة اللاتين بغزة
في العام الحالي تم تقديم 765 طلب للحصول على تصاريح الى الجانب الفلسطيني المكلف بالشؤون المدنية للسماح لهم بالتنقل والحركة عبر معبر بيت حانون إيرز وقد تمت الموافقة على 434 تصريح فقط فيما رفض 331 طلب ويأتي الرفض احيانا لكون أحد أقارب بعض المسيحيين يقيم بشكل غير قانوني في الضفة الغربية مما يستدعي التواصل مع البطريركية اللاتينية في القدس وسفير الفاتيكان من اجل الضغط على الجانب الإسرائيلي للسماح للجميع بالحصول على تصاريح لزيارة الأماكن المقدسة
من المعروف أن اكثر المسيحيين في غزة ليسوا تابعين لأي من الفصائل الفلسطينية السياسية أو العسكرية لكن إسرائيل تتذرع عادة بالأسباب الأمنية لرفض منحهم التصاريح وكما لا تفرق القنابل والصواريخ الإسرائيلية بين الفلسطينيين لا يفرق الحصار وإجراءاته القمعية بين مسلم ومسيحي فجميعهم محاصرون منذ عام 2007 في غزة ويتجرعون الألم والمعاناة ذاتها تحت الاحتلال بغض النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم
المسيحيون في قطاع غزة كل عام ملزمون بتقديم طلبات للحصول على تصاريح في عيد الميلاد المجيد وعيد القيامة لزيارة الأماكن المقدسة وممارسة الشعائر الدينية والصلاة في كنائس الضفة الغربية والقدس في كنيسة المهد وكنيسة القيامة أحد أكثر الأماكن قداسة لدى المسيحيين في العالم وعادة ما يصل عشرات آلاف المسيحيين من أنحاء العالم إلى مدينة القدس الشرقية المحتلة من أجل المشاركة في الاحتفالات داخل المواقع الدينية وإن إسرائيل لا توافق عمدًا على منحهم التصاريح للاحتفال بعطلاتهم وغالبية التصاريح التي منحت منذ فرض الحصار على غزة عام 2007 كانت لأطفال بينما تمنع عدد كبيرا من الرجال والشباب من المغادرة وحتى عندما تمنح التصاريح تمنع أحد أفراد العائلة نفسها من المغادرة ما يمزق شمل العائلات او تمنح تصريح لطفل بدون أن يكون معه والديه أو أحدهما وما الفائدة من ذلك
اجراءات الاحتلال اتجاه مسيحيي غزة تمثل انتهاكاً صارخا وجسيم لحرية التنقل والعبادة الواردتين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 وهي تشكل ايضا عقاب جماعي وتعسفي غير قانوني يخالف معايير الوفاء والالتزامات القانونية والأخلاقية الواردة في القوانين والمواثيق الدولية لحقوق الانسان واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية السكان المدنيين والبروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف بما يتعلق بحرية العبادة بمنع المؤمنين من الوصول إلى أماكن عبادتهم بحجج وذرائع واهية
ليس من عجائب الدهر أن يحمل مسيحيو فلسطين نصيبهم من مسئولية المقاومة حين وقفوا ضــد الاحتلال كتفاً بكتف مع أبناء وطنهم من المسلمين في خندق واحد وقد قدم أبناء الطائفة المسيحية ثلاثة أفراد من أجل الوطن والواجب كما أكد العديد من قادة ورجال المقاومة مشاركة أعداد من مسيحيي غزة في التصدي للعدوان الاسرائيلي الأخير على القطاع حيث قتلت الطفلة ( كرستين الترك ) 15 عام من الطائفة المسيحية في القطاع خلال الأيام الأولى للحرب جراء سقوط صاروخ بالقرب منها أثناء وجودها في محيط منزلها كما سقط المقاوم ( حنا سابا ) أثناء تصديه للقوات الاسرائيلية بعد أن استهدف بصاروخ من طائرة حربية كما قضى المواطن المسيحي ( جريس العمش ) 50 عام إثر إصابة تعرض لها جراء الغارات الجوية المكثفة خلال العدوان وأن ما ارتكبته إسرائيل من جرائم استدعى من جميع المسيحيين أن يقفوا وقفة واحدة وأن يتحدوا في وجه العدو
ومن الملاحظ في تلك الفترة أن الراية الوطنية كانت هي السمة الغالبة على كل الفروقات الطائفية والفصائلية أثناء الحرب يوم شاهدوا مدافع الغزاة الصهاينة لم تميز وهي تصب نيرانها بين مئذنة مسجد وبرج كنيسة ولأن حب والوطن وكراهية الظلم والاستبداد في نهاية المطاف هي مشترك إنساني تتجاوز اختلافات المذاهب والطوائف بين أبناء الشعب الواحد ومن نافلة القول إن مسيحيي فلسطين قد تحملوا نصيبهم من المقاومة لا لكونهم مسيحيين فحسب وإنما لأنهم فلسطينيون مسهم ما مس غيرهم من الفلسطينيين وطالهم ما طال بقية قومهم من الطرد والتهجير والقتل والإنكار والتغييب فحملوا مع بقية قومهم ما حملوا من عبء المقاومة والعناد وغرس الأظافر في الأرض تمسكا بالحق والحرية والتحرير ونستذكر هنا راهب المقاومة الوطنية الفلسطينية الراحل المطران ( هيلاريون كابوتشي ) البطل الذي حمل نصيبه من الفداء والسجن والنفي من الأرض التي احبها وقاوم من اجلها
في سنة 2005 كان عدد مسيحيي غزة يناهز الأربعة آلاف مواطن وقد تناقصت اعدادهم منذ سنة 2006 فصاعداً خصوصاً بعد وقوع حوادث عدة طالتهم بوصفهم مسيحيين مثل تفجير مدخل جمعية الكتاب المقدس ونهب وإحراق دير في مدرسة راهبات الوردية ثم مقتل الشاب ( رامي عياد ) في مطلع تشرين الأول عام 2007 الان يسكن في القطاع حوالي 1200 مسيحي فلسطيني وهي نسبة ضئيلة من سكان القطاع الذي يزيد عدد سكانه على 2 مليون نسمة معظمهم من طائفتين ( اللاتين كاثوليك و الروم الأرثوذكس ) يتوزعون على العائلات التالية ( حداد عياد فرح الصايغ الصراف عواد سابا الصوري مسلّم الترزي ) ويتعايشون بإخوة وانسجام مع المسلمين رغم أقليتهم حيث تم تحويل الكاتدرائية الكبيرة لمسجد سمي الجامع الكبير وسط غزة
رحل الكثير من الشبان المسيحيين من غزة إلى إسرائيل بعدما حصل بينهم نسب وتزاوج وانتقلوا للعيش في الضفة الغربية وتنقلوا ما بين بيت جالا وبيت سأحور ورام الله ومنهم من هاجر الى الأردن ومصر وأوروبا والشتات بحثا عن ملجأ او لإكمال الدراسة وقد حصلوا على مراتب عليا بعدما واجهوا التحديات التي جعلتهم أقوياء في البحث عن مستقبلهم وسبل العيش الكريم والبابا الجديد فرنسيس اطلق نداء عالمي للمسيحيين للعودة لفلسطين وطالب بحق العودة وحياة معظم المسيحيين ليست مختلفة عن المسلمين في غزة وليس في فيها رفاهية واضحة بل الأمور سيئة نتيجة الحصار المفروض على غزة
ينقسم المسيحيون في قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام منهم من كان يقيم في غزة منذ القدم وقسم ثاني هاجر خلال النكبة الفلسطينية عام 1984 وقسم ثالث جاء مع الرئيس الراجل أبو عمار خلال عودته إلى قطاع غزة وقدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 وأقاموا فيها وعلى رأسهم ( رمزي خوري ) ويمثل المسيحيون في قطاع غزة الأب ( منويل مسلم ) رئيس دائرة العالم المسيحي في مفوضية العلاقات الخارجية في حركة فتح واحد رؤساء الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات والذي كان يمثل الفئة المسيحية داخل المؤسسات الرسمية في فلسطين وبعد بلوغه السن القانوني للتقاعد ترك غزة بسبب ظروفه الصحية للاستقرار مع أهله في بيرزيت
علاقة كثير من المسيحيين بحركة حماس علاقة طيبة حيث عاشوا معها فترة من الزمن و يعتبرونها فصيل سياسي مقاوم للمحتل والظلم والاضطهاد وهم كأبناء شعب فلسطيني لن يقبلوا الاستسلام والتعايش مع إسرائيل ويمتلك عدد قليل من المسيحيين ثلث اقتصاد المسيحيين في قطاع وهوعكس ما نشر في تقارير سابقة على الانترنت وفهم بالخطأ أن المسيحيين يمثلون ثلث اقتصاد قطاع غزة
منذ عام 2012 بدأت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حملة لترويج تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي وفي 2014 قدم وزير السياحة الإسرائيلي ( ياريف ليفي ) مشروع قانون وافق عليه الكنيست يقضي بتعريف العرب المسيحيين في بطاقات هويتهم باعتبارهم ( مسيحيين لا عرب ) وفي اكثر من مرة طالبت إسرائيل من الطوائف المسيحية الانضمام في الجيش الإسرائيلي لخلق الفتنة بينهم وبين المسلمين إلا أنهم يرفضوا ولا زالوا يصرون على أن السلاح يجب أن يوجه للاحتلال فقط وفي وقت سابق اقال بطريرك الكنيسة اليونانية في الناصرة ( ثيوفيلوس الثالث ) الكاهن ( جبرائيل ناداف ) من عمله الكنسي بسبب تعاونه مع السلطات الإسرائيلية في الترويج لحملة تجنيد المسيحيين
يعرف المسيحيون في الأراضي الفلسطينية جيدًا ما يكنه اليهود المتطرفون لديانتهم ومقدساتهم وقادتهم الدينيين فقد اعتادوا على حوادث حرق الكنائس وعلى قراءة الشعارات المعادية التي تطالب بذبحهم وتنعتهم بألفاظ سيئة وكذلك البصق على الرهبان في شوارع القدس فيما يبدو الأكثر خبثًا هو العمل على نهب ممتلكات الأوقاف المسيحية في مدينة القدس على وجه التحديد تلك المدنية التي أُعلنت عاصمة لإسرائيل إرضاءً للإنجيليين الأمريكيين وكل ذلك يحدث ذلك مع استمرار خروج فتاوى الحاخامات التي تجيز ذبح المسيحيين وحرقهم لأن يسوع على قولهم الكاذب ( أفسد إسرائيل وهدمها ) حسب الديانة اليهودية
الاحتلال الإسرائيلي سعى خلال عقود إلى السيطرة على العقارات العربية المسيحية في مدينة القدس المحتلة وغيرها بأساليب متنوعة ومتعدّدة وبما يخدم أجندته السياسية الرامية إلى تفريغ المدينة من الوجود المسيحي العربي عبر صفقات متتالية ينتزعها الاحتلال من أملاك الكنيسة الأرثوذكسية وأوقافها بتنسيق مع شخصيات عميلة غير عربية
رئيس منظمة ( لهافا ) المتطرفة الصهيوني ( بنتسي غوبشتين ( يقول بكل عنجهية وصلف لامكان لعيد الميلاد في الأراضي المقدسة وقد كتب قبل فترة مقال ورد فيه بانه لا ينبغي منح العمل التبشيري المسيحي موطئ قدم ويجب ان نلقي بهؤلاء مصاصي الدماء خارج أرضنا قبل أن يقوموا بشرب دمنا مرة أخرى واننا مع وجودهم بيننا نشعر بفقدان الأمن الروحي بسبب عدوانيهم القاتلة منذ قرون الكنيسة المسيحية وهنالك العديد من الفتاوي اليهودية التي تبيح ذبح المسيحيين وتدنيس أماكن عبادتهم ومقدساتهم وتحرم تلقي تبرعات من المسيحي لبناء معبد أو مدرسة دينية يهودية كما يعتبرون المسيحيين حيوانات غير عاقلة و ويجب ان يعاملوا معاملة الحيوانات الدنيئة وأن مريم عليها السلام أم عيسى هربت من زوجها واقترفت الزنا وأن المسيحية هرطقة بالية و ضرب من ضروب الوثنية وان يسوع ضلل وأفسد (إسرائيل) وهدمها
سياسة تدمير وتخريب الكنائس هي نهج المستوطنين والجيش الإسرائيلي وهذا ما حصل لكنيسة الطابغة (كنيسة السمك والخبز) الواقعة على الضفاف الشمالية لبحيرة طبريا حيث مرست فيها أكبر الاعتداءات الإسرائيلية التي نالت من الكنائس في فلسطين وفي عام 2015 اضرم المتطرف اليهودي( يانون رؤوفيني )
فجرا النار في الكنيسة الأثرية التي احدثت أضرارًا جسيمة فيها حيث احرقت الابواب و قاعة الصلاة وتم تمزيق كتب الإنجيل وألحقت أضرار بالصلبان المرفوعة في فناء الكنيسة ناهيك عما فعلته اسرائيل عشية حرب عام 1948 وخلالها وبعدها من تدمير وتخريب وسرقة ممنهجة لمحتويات الكنائس حيث كسروا يد تمثال للمسيح في إحدى الكنائس لسرقة سوار من ذهب كانت تلف معصمه
اضافة الى تحويلهم بعض الكنائس إلى دورات مياه لقضاء حاجاتهم والاعتداء على كنيسة ( رقاد العذراء البندكتانية الألمانية ) عام 2016 وتدنيس مقبرة ( دير السالزيان ) في بيت جمال فضلا عن كتابة الشعارات على جدران الكنائس المعادية للنبي عيسى عليه السلام والتي تدعو بالموت للمسيحيين أعداء إسرائيل والمطالبة بمحو اسم وذكرى يسوع وبعضهم كتب ( المسيحيون عبيد و قردة )
وفي الختام يجب ان لا نغفل بان التعليم الديني التوراتي العنصري في إسرائيل لعب دورا رئيسيا في دعم الوجهة الدينية المتطرفة والأعمال العدوانية ضد المسيحية واتباعها بعنف وقسوة قاتل الله اليهود والصهاينة وعجل هلاكهم واستئصالهم انه على كل شيء قدير
mahdimubarak@gmail.com
ً