حسن محمد الزبن - الطبقة الوسطى Middle Class كانت تمثل النسبة الأعلى في الأردن، وممتدة في كافة مناطقه، فهي ما بين "الطبقة العاملة" و"الطبقة العليا" في الهرم الاجتماعي والاقتصادي، فالطبقة الوسطى مصدر الازدهار الاقتصادي، وتوفر قاعدة مستقرة من المستهلكين الذين يدفعون عجلة الإنتاج نحو الريادة والابتكار وخلق استثمارات آمنة؛ فقد أشار إلى ذلك عالم الاقتصاد البريطاني "جون ماينارد كينز"، في كتابه " النظرية العامة للعمالة والفائدة والمال" عام 1936 عندما قال "إن استهلاك الطبقة المتوسطة مطلوب لتحفيز الاستثمار"، وخلصت إلى ذلك دراسة أخرى لمارك بارتريدج في جامعة أوهايو بقوله: "طبقة وسطى أكثر حيوية يعني نموًا اقتصاديًا طويل الأجل"، وبتلك الشهادات يمكننا أن نقتنع بقدرة الطبقة المتوسطة على قيادة النمو الاقتصادي، وتمتلك الطموح والرغبة في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وهي تخاطر بما تمتلكه من أصول واستثمارات بهدف الحصول على المزيد، والارتقاء إلى درجة أعلى في السلم الاجتماعي.
أما أرسطو فيرى "أن الدولة المكوّنة من الناس الوسط، ستمتلك أفضل بناء للدولة"، وافترض أيضا الخبير الاقتصادي بول بوكارا وجود "طبقة الراتب" وهي طبقة جديدة، وباعتقادي أن جزء من طبقة الراتب هم كبار موظفين القطاع العام في الدولة يمكن اعتبارهم من ضمن الطبقة الوسطى، أما الموظفين الذين تقل رواتبهم عن خمسمائة دينار فهؤلاء من طبقة الفقراء في الدولة.
ويُعرِّف عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، الطبقة الوسطى بأنها: "الطبقة التي تأتي في منتصف الهرم الاجتماعي، وهي الطبقة التي تأتي اقتصادياً واجتماعياً بين الطبقة العاملة وطبقة الأغنياء" إن الطبقة الوسطى تنتمي إلى مفهوم الطبقة الاجتماعية ''social class'' والذي يعرف اصطلاحاً: ''مصطلح في سلم تكوين المجتمع ودرجاته، وتجمع الطبقة فئة من الناس يتساوون إلى حد ما في الدخل والمكانة الاجتماعية ويتشبهون في أسلوب الحياة ونظرتهم لها''.
أما " ماكس فيبر" الذي ركز على المهارات الإدارية والبيروقراطية، فقد لفت نظرنا لدور الدولة باعتبارها مهندس النظام المهني الذي تقوم عليه ترتيبات معينة لعلاقات السلطة والسيطرة التي يمارسها الفرد أو تمارس عليه بحكم وضعه في هيكل العلاقة، خاصة أنه بعد انتهاء الحرب الباردة، وولوج عصر العولمة والثورة المعلوماتية؛ أضافت التقنية الحديثة أبعاداً جديدة لدراسة العمل والطبقة والمهارات المرتبطة بتراتبية المهن الوظيفية، بحيث أصبحت عملية تشغيل الآلات الأوتوماتيكية بديلا لعملية إدارة الآلة بأيدي بشرية، وحلول الماكنة الإنتاجية والصناعية المبرمجة.
وهنا نذكر رأي توربين إيفرسن وديفيد سوسكيس، بما يُطلقان عليه وصفَ "الديمقراطيات الرأسماليّة المتقدمة"، وهما أكثر تحيزا للرأسماليّة من الديمقراطيّة التي يرونها مسؤولة عن انعدام المساواة، كما أنّهما يشدّدان على أن "جوهر الديمقراطيّة" هو "النهوض بمصالح الطبقة الوسطى" ويجادل إيفرسن وسوسكيس أيضا بحكم أنهما خبيران اقتصاديان، أن الطبقة الوُسطى تنحاز إلى رأسمالٍ من خلال آليتيْن أساسيتيْن؛ أولًا عبر الإدماج في تيّار الثروة" الناتج عن تراكُم رأس المال. وثانيًا من خلال دولة الرفاه الاجتماعيّ، إذ يضمن نظام الضرائب فيها، "تقاسمَ" مكاسب اقتصاد المعرفة "مع الطبقات الوسطى".
ومن الملاحظ في الأردن أن هناك مؤشرات لتآكل الطبقة الوسطى، وتمر بمحنة واضمحلال وانحدار غير مسبوق ويجب إعادة التوازن لها وإعادة هندستها، بسبب ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير وفقدان العملة المحلية أكثر من قيمتها، وكذلك الانحدار في خدمة وجودة التعليم جعل فئة كبيرة تنحاز لتعليم أبناءها في مدارس القطاع الخاص، وما ينطبق على التعليم ينطبق على الصحة، بحيث توجهت هذه الطبقة إلى مستشفيات القطاع الخاص وعياداته ومختبراته وصيدلياته، كما أن ظروف الإقليم والمنطقة أثرت على النشاط الاقتصادي مما قلل من حوالات العاملين في الخارج، كل ذلك وغيره خلق حالة الركود الاقتصادي الذي أعاد جزء من الطبقة العليا بعد الثراء إلى صف الطبقة الوسطى، ونحن أحوج من أي وقت مضى لإصلاح ثقافي ومجتمعي ليكون معززا للإصلاح السياسي والاقتصادي ومنظومة التحديث الذي تبنته الدولة مؤخرا.
وتَحظى "الطبقة الوسطى" في كل المجتمعات بأهمية بالغة؛ فهي تُجَسّد (القوة الشرائية) والطلب وتجديد الإنفاق على غالبية السلع والخدمات، وهي تُمثّل الاستقرار المنشود لأي نظام سياسي واجتماعي، وكلما اتسعت قاعدة "الطبقة الوسطى" يعني توفر عدالة اجتماعية واقتصادية في الدولة، وإذا ما انكمشت فهذا يعني زيادة الاحتكار الاقتصادي وتغلغل البيروقراطية وتفاقم الفساد والظلم الاجتماعي والتوزيع غير العادل للثروات مما ينعكس على أداء الدولة مستقبلا.
فالدولة معنية بتهيئة سوق العمل الأردني في القطاعين العام والخاص بالتوازن المدرك لتحقيق العدالة في تمكين الوظيفة لمستحقيها بعيدا عن الواسطة والمحسوبية، وخلق فرص عمل لتشغيل أكبر عدد ممكن للطاقة الاستيعابية في كافة القطاعات، ويجب وضع أسس واستراتيجيات لإصلاحات شاملة وجذرية لقطاع الإسكان الذي تمدد وتنامى وعشنا طفرة غير مسبوقة في الأردن لارتفاعها بعد عدة أزمات في المنطقة أهمها اجتياح الكويت وما آل إليه من موجات نزوح ، والحرب العراقية وموجات اللجوء القصري للعيش بالأردن، وكذلك الأزمة السورية وتبعاتها بنزوح عدد كبير من اللاجئين للأردن، وفي كل نزوح أو لجوء كان يصاحبه طفرات وارتفاع مضاعف وغير مبرر وغير مسبوق في الأراضي وأسعار الشقق وأجور المستشفيات وأجور السلع والخدمات والتدريس في القطاع الخاص، وأعقبها جائحة كورونا التي ألقت بثقلها على كاهل الجميع وبالذات الطبقة الوسطى الذي أرغم جزء منها لينحدر إلى طبقة الفقراء والمعوزين، ولا زلنا نشهد تداعيات "أزمة كورونا" التي إذا ما استمرت نكون قد حملنا فوق طاقتنا اجتماعيا واقتصاديا، فالطبقة الوسطى هي من أعمدة البناء الوطني اقتصاديا وتلاشيها يعني ضمور في عصب الحياة الاقتصادية وإذا ما تنبهنا كدولة لإنقاذها سنحتاج إلى وقت طويل لمعالجة التوازنات فيها؛ فليس سهلا على هذه الطبقة ما شهدته من اغلاقات لمؤسسات تجارية وصناعية كانت تقوم روافعها على أيدي هذه الطبقة التي فقدت العمل مما يعني عبئا اجتماعيا واقتصاديا مضافا على الدولة يتقدم الواجهة وينبئ بخطر غير مسبوق، ويهيئ الى ظهور الطبقة المهمشة بسبب تقلص الدخل أو انعدامه مما يخلق فقرا شديدا. فالمبادرات الصغيرة هي الأقدر على التنمية خصوصا في المناطق الأقل حظا من المملكة، والتي يعني تحفيزها نموا وقدرة على النجاح وخلق فرص عمل جديدة تستوعب توسعها.
إذ لا بدّ من خفض فواتير الطاقة والتعليم والعلاج والغذاء وعدم فرض نسب عالية للضرائب، وتشجيع ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتعزيز الإنتاجية وتوسيع قاعدة المشمولين بالضمان الاجتماعي، وخلق فرص للعاطلين عن العمل في المناطق الأقل حظا، وتأمين الدعم للطبقة الفقيرة وحمايتها، مما يعزز أن نكون دولة إنمائية ومسؤولة اجتماعيا، لضم أكبر قدر ممكن من طبقة الفقراء الى الطبقة الوسطى، لحفظ التوازن المجتمعي في الدولة نحو حياة أفضل، ولا بدّ من إشراك الطبقة الوسطى التي نضجت تطلعاتها وقراءة مصالحها التي حتما ستعود على الدولة بالنفع إذا ما تم الاستجابة لها في رسم ملامح المستقبل، لأن بيدها أدوات التقدم الاقتصادي والثقافي والسياسي، وهي الطبقة الداعمة لاقتصاد السوق وتقدم الديمقراطية المنشودة والتي ندعو لها ليل نهار، والتي ستفضي لتماسك العقد الاجتماعي وتعزيز الاستقرار استجابة للآمال والطموحات.
فنحن تباينا عن دول الجوار التي خاضت الربيع العربي، ونحن ننعم بتراث قيمي وثروات ثقافية متنوعة قلّ نضيرها، فلم نعاني من اضطرابات اجتماعية، لكننا بحاجة إلى التدقيق والنظر في تطبيق السياسات العامة، وهذا يحتاج إلى حكومات وازنة قادرة على التخطيط والعمل على أرض الواقع لتقليل نسبة البطالة التي تتفاقم مع مرور الوقت، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وخلق فرص عمل للأكفاء بعدالة، والتنبه لوضع قطاعنا الصحي والتعليمي بشفافية بعد التراجع الذي اصبح واضحا في المجالين، وحتى لا نصل إلى درجة أن يكون ولاء الطبقة الوسطى للشارع بالمسيرات والاحتجاجات واللاءات المتعددة التي حتما ستؤثر على ردة فعل الدولة، فقمعها أو إحكام الخناق عليها لا يجد ولن يكون له فائدة، وإذا فعلت الدولة تكون قد وضعت نفسها في مأزق ومطبات مفخخة بتمترس الشارع للعناد والمناكفة فتفقد قدرتها السيطرة على خطاب الفقر والجوع، خاصة في ظل ما يسمى أو ما يعرف بـ “ شبكات المحسوبية” التي يتذمر منها الجميع، ويرتفع الصوت ضدها بالفترة الأخيرة، ومطالبة الشارع بضرورة التغيير تعبيرا عن الاستياء والسخط من طريقة اتباع الدولة لسياسات الاصلاحات الاقتصادية لمواجهة العجز في الموازنة والضغوط المالية المتزايدة عليها، وهو ما يدفع الطبقة الوسطى إلى الانزياح السلبي قصرا نحو طبقة الفقراء، وتلاشي حلمها في نظام اجتماعي اقتصادي يقوم على الجدارة وسلطة القانون، وهي طبقة يهمها الحفاظ على الأمن الداخلي، وبتوفره فإنها غير معنية بأمور السياسة أو حرية التعبير أو صناعة القرار السياسي، وجلّ اهتمامها الاستقرار وتدني التضخم.
والدول التي تحقق نجاحات ويزداد من خلاله الدخل المحلي والقومي هي التي تهيأ المناخ للتجارة الحرة وأرضية استثمار خضراء ورسم سياسات حقيقية ونافذة للمساعدة في زيادة نمو الطبقة الوسطى، وتجنبًا لإخفاقات اقتصادية تؤثر على حركة الطلب والعرض في حال إصابة هذه الفئة بالشلل أو الانكماش.
إذ لا بدّ للدولة أن توفر الوظائف وفرص عمل لتمكين هذه الطبقة من النمو، وهذا يحتاج إلى سياسات تهدف زيادة الانتاج الاقتصادي وتوجيه الاستثمار في الدولة من أجل إنعاش الصناعات التحويلية وتعزيز الصناعات الأخرى والخدمات ذات القيمة المضافة العالية وحسن استخدام الامكانات البشرية، واتخاذ الاجراءات التي تخدم رفع السقف المعيشي للمواطن وبيئة تنافسية للأعمال على أساس الكفاءة وليس المحسوبية، والاستثمار في قطاعات قادرة على استيعاب أكبر عدد من الوظائف الجيدة بدلا من المشاريع العامة الكبيرة، اذ لا بد من التحوط برسم سياسات عامة لخلق جو اقتصادي واجتماعي أخضر وايجاد حلول مانعة حتى لا نقع فيما لا تحمد عقباه.
ومن الضروري أن نصل إلى مرحلة من الاستقرار وإعادة التوازن المالي والنقدي في قطاع الاقتصاد والحد من ظاهرة التضخم والمضي في التنمية المستدامة لينعم المجتمع بتوازنات مريحة وغير مقلقة للدولة.
وعلى الأمل نلتقي ونصنع الحياة،،