شاءت الأقدار أن ألتقي في أحد صالات الأفراح في مناسبة لدى أحد أصدقائي أحد أقربائه الذين كانوا يجلسون بقربي على نفس الطاولة مع عدد من الأقرباء و المعارف و كان يتحدث لهم عن قصص متعلقة بطبيعة عمله في مركز لمعالجة الإدمان من المخدرات و للأمانة لم أكن على علاقة وطيدة بالرجل لأعرف تفاصيل عمله عن قرب و لكنني كنت منصتاً باهتمام لجميع القصص التي سردها و ما بها من تفاصيل ينخلع لها القلب حسرة و ألماً على شباب و شابات انحدرت بهم دركات التهلكة عند أول مفترق طرق مع المخدرات فمنهم من وصل به الأمر للسرقة و منهم من وصل به الأمر للهرب من منزل ذويه و منهم من تخلى و تخلت عن الشرف و العفة فسلك طريق الرذيلة المحرمة و منهم من عاقر الخمور و منهم من وصل به الحد إلى الانتحار والعياذ بالله.
كنت أصغي لكل تلك المآسي التي علقت في ذهني و مسمعي محاولاً أن لا أنسى شيئاً منها فرغم صخب و ضوضاء الموسيقى و الأغاني في الصالة إلا أنني كنت مشدوداً أحاول التقاط جميع ما تفوه به الرجل دون أن أترك حرفاً يضيع في عنان الهواء فالأمر لم يكن بالنسبة إلي محض تسلية أو إمضاء وقت بقدر ما كان محاولة لفهم كارثة حلت بشريحة من الشباب كان يفترض أن تأخذهم دروب الحياة نحو مجالات مختلفة أكاديمياً و مهنياً بحسب قدراتهم و ميولهم و لكنهم بدلاً من ذلك وجدوا أنفسهم غارقين في وحل من مهلكات المال و الصحة و الدين و الشرف ، لكن ما جذب انتباهي وجود قاسم مشترك بين جميع تلك القصص أكاد أجزم أنه بوابة جهنم الدنيا التي يلج الشيطان منها للإنسان و يوقعه في حبائله ليغدو فريسة سهلة للموبقات و الكبائر و لتستبين له سبيل الحرمات و الجرائم فيسلك فيها ما استطاع إليه سبيلا.
القاسم المشترك الذي قسم ظهر المجتمع الأردني كله و ليس فقط هؤلاء الشباب المتعاطين هو التجربة و يا له من اسم يعشق الشيطان أن يغلف معاصي الله و حرماته فيه فيدفع البشر للانخراط في تلك المعاصي و الحرمات تحت مسمى التجربة ليجدوا أنفسهم و قد اقتحموا ما حرمه الله عليهم و أوغلوا فيه إلى أن وصلوا لمرحلة لا يمكنهم أن يعودوا بعدها أبداً ليدركوا أنهم قد قطعوا شوطاً طويلاً نحو غضب الله عز وجل و سخطه و نسأل الله السلامة و العافية .
انتهت المناسبة و انفض السامر و تفرق القوم كل من حيث أتى بعد تأدية الواجب الاجتماعي لكنني عندما عدت للمنزل بقيت أفكر في مصطلح التجربة و كيف تحول من كلمة يفترض أن لا تتجاوز حدود المختبرات و المعامل لتصبح نمط حياة يودي بالكثيرين إلى خسران الدنيا و الآخرة و لماذا المخدرات بالذات هي التي ارتبطت بعلاقة وطيدة بهذا المصطلح حتى كادت أن تكون مرادفاً له للأسف في بعض مجتمعاتنا و هو ما يدل على انحدار في عموم القيم و الأخلاق لدى شريحة ملحوظة من الشباب و الشابات في الأردن.
يثبت ذلك العدد المتزايد عاماً تلو الآخر لأعداد المتعاطين للمخدرات و قضايا ترويج المخدرات و الاتجار بها و ما يتبع ذلك من آثار كارثية على المجتمع تتعلق بانهيار القيم و الأخلاق و شيوع الفاحشة و الرذيلة و انتشار الجريمة وصولاً إلى تفتت المجتمع و انهيار الجبهة الداخلية فيه نتيجة دوافع الخوف و القلق و الكراهية و عدم الثقة بين أفراد المجتمع و هو نتيجة ليست بالغريبة فالمخدرات سحر بلا ساحر و عمل بلا مشعوذ و تلبيس على الخلق بدون جن و هي أيسر طرق الشيطان للغواية و أحبها إلى قلبه فهي تسلب العقل و تعطل الإحساس و تسقط ثوب الحياء و العفة و تميت الضمير و تخرج المتعاطي عن دينه حرفياً بسبب ما يتلفظ به و ما يعتقده عندما يدمن عليها فليس على بني البشر آفة مهلكة أكثر منها فأينما حطت رحالها في عائلة أو بيتٍ كانت نذير الخراب و سبب نزول العقاب من رب الأرباب.
عندما نتحدث عن مصطلح التجربة فنحن نعني إخضاع الشيء لاختبار عملي يطبقه المجرب بنفسه على شيء معين بفعل أنه لا يملك المعرفة الكافية المسبقة عن نواتج الاختبار و يريد أن يتعلم أكثر أو أن يعرف أكثر عن ذلك الشيء محل الاختبار و بكلام أوضح فالتجربة تنشأ عن جهل بشيء ما و رغبة في معرفته و من هنا فإن من يمتلك المعرفة التامة بشيءٍ لا يجربه لأن لديه العلم المسبق به .
دعونا نضع بضعة أسئلة مهمة يجب على الحكومة الأردنية بنفسها أن تجيب عليها و تصارح نفسها قبل الشعب إن كانت عازمة فعلا على الحد من ظاهرة المخدرات و القضاء عليها ما أمكن و محور جميع الأسئلة هنا هو مصطلح التجربة و الذي أوقع شريحة من الشباب الأردني في المحظور تحت مسماه البراق.
أول تلك الأسئلة يدور حول سبب النقص الشديد في عدد الأسرة المخصصة لمعالجة متعاطي المخدرات في الأردن حيث لا يزيد عددها عن مائتي سرير فقط علماً أن عدد قضايا التعاطي قد تخطى حاجز العشرين ألف قضية فيا ترى هل ترى الحكومة هذه الأرقام منطقية ؟ أم أن الموضوع لا يعنيها في الوقت الحالي و بالمناسبة فمدة العلاج من إدمان المخدرات تستغرق شهوراً و أحياناً سنوات بحسب مدى تقدم الحالة أي أنه قد تكون جميع تلك الأسرة مشغولة و لفترة طويلة مما يعني أن هناك حالات ناشئة عن تجربة المخدرات لأول مرة لن تجد فرصة للعلاج أو حتى تلقي أي اهتمام طبي يتناسب مع طبيعتها مما سيدفعها للوقوع في تلك التجربة مرات و مرات ،وهنا أستدرك السؤال الأول بتعقيب حول مدى علم الحكومة بكافة المشاكل التي تنجم عن وجود مثل تلك الحالات بعيداً عن العلاج و أكاد أقسم يقيناً أن الحكومة لا تعبأ بهذا كله في الوقت الراهن و لا أدري لماذا و لكن صمت الحكومة عن حل تلك المعضلة قد تفوق بمراحل على صمت القبور.
ثاني تلك الأسئلة يدور حول سبب الجهل بعواقب إدمان المخدرات لدى فئة مهمة في المجتمع و هي الشباب الجامعي و الذي يفترض أنه لا يجرب شيئاً في حال معرفته التامة بمدى خطورته فهل عملت الحكومة ما يكفي لتوعية و تثقيف الشباب بآفة المخدرات لنقلهم من دائرة التجربة لدائرة الدراية التامة بعواقبها؟ عذراً لكن الإجابة مرةً أُخرى هي قطعاً لا، فالأرقام و المؤشرات المتعلقة بظاهرة انتشار التعاطي و الإدمان بين الشباب و طلبة الجامعات بشكل خاص تظهر ازدياداً ملحوظاً و مطرداً زمنياً في عدد الحالات مما يدفعنا لصياغة جديدة للسؤال السابق فنقول ألم يحن الوقت لأن تغيير الحكومة وسائل التوعية و الإرشاد للشباب فيما يخص المخدرات لكي تصبح لديهم معرفة تامة بمدى عواقبها؟ فاليوم أصبحت هناك حاجة ضرورية لاستحداث أسلوب جديد في التوعية من خطر المخدرات ألا و هو أسلوب المساق التعليمي لمكافحة المخدرات حيث يقوم هذا الأسلوب على اعتماد ثلاث ساعات إجبارية في خطة المساق الدراسي لجميع التخصصات الجامعية في الجامعات الأردنية ضمن مادة تسمى مكافحة المخدرات تكون ملزمة في العام الدراسي الأول لجميع الطلبة الجامعيين بحيث يخصص لتلك المادة محاضرون متخصصون من إدارة مكافحة المخدرات و يخصص للمادة أيضاً كتاب جامعي معتمد من وزارة التعليم العالي ليصبح إلزامياً لتدريسه في جميع الجامعات و يفضل أن يشمل أيضاُ هذا المساق محاضرات يلقيها مختصون من الأطباء النفسيين ومن علماء الشريعة و من حرس الحدود في الجيش العربي لتوضيح كافة الآثار السلبية على الفرد و المجتمع جراء التعاطي و إدمان المخدرات،إضافة إلى تخصيص أسبوع كامل لعقد الندوات التثقيفية و الورشات الإعلامية حول خطر المخدرات في كافة المدارس و المعاهد و الكليات و الجامعات الأردنية و كيفية إبعاد الشباب عنها و بهذا الأسلوب يتم إكساب الشباب الأردني المعرفة التامة بمخاطر تلك الآفة ليتم إخراجه من ظلمات التجربة إلى نور المعرفة .
ثالث تلك الأسئلة يدور عن مدى الردع القانوني الذي يتلقاه كل من انقادت قدماه للغوص في حفر المخدرات الامتصاصية النتنة سواءً أكان مروجاً أم مهرباً أم متعاطياً فهل اتخذت التشريعات الحكومية العقوبة الكافية التي تضمن إنزال العقوبة المناسبة لكل فئة من الفئات المذكورة آنفاً ؟ يؤسفني تكرار نفس الإجابة ولكن لا مناص من قولها و هي لا ، لم تكن تلك التشريعات و القوانين و تعديلاتها في المستوى المطلوب ، و دليل ذلك حجم البيانات الأمنية التي تكشف عن زيادة في تعاطي وترويج المخدرات وانتشارها بين الشباب الجامعي كالنار في الهشيم و لو كان هناك قانون رادع و عقوبات مغلظة لما وصلنا لمثل تلك المؤشرات التي تعتبر وصمة عار في جبين المجتمع الأردني الذي لم يكن يعهد وجود السموم و المهلكات بين فئة الشباب و كان يعتبر تعاطيها عاراً يلحق بشرف و كرامة و عفة من يتعاطها ذكراً كان أم أنثى فمن هان عليه تسليم عقله للشيطان كان تسليم الدين و العرض عليه أهون و من باع المخدرات في سبيل الكسب الحرام فمن السهل عليه التفريط في دينه و عرضه و شرفه و كرامته و رجولته إن أحس بالدائرة تدور عليه ، و لذلك فإن مستوى العقوبات الرادعة لم يصل إلى الحد الذي يجعل الشباب يفكرون ألف مرة قبل الولوغ في حفرة الغائط التي تسمى أحياناً بالكيف و أحياناً بحبوب النسيان و كلها أسماء براقة خادعة للمخدرات، فلماذا تسكت الحكومة عن ذلك و لماذا لم تغلظ عقوبة المتعاطي لأول مرة و عقوبة المروج و عقوبة المدمن و المهرب؟ الإجابة للأسف لأنها لا تريد القضاء الكامل على تلك الظاهرة البشعة و مصممة على بقاء مصطلح التجربة سائداً في وسط الشباب .
خلاصة القول أنه ما دامت الحكومة مقصرة في إجابة الأسئلة الآنف ذكرها فمشكلة المخدرات ستبقى مستشرية في مجتمعنا و ستنخره نخراً لأن مصطلح التجربة في نظر الشباب سيبقى كالضوء الذي يجذب إليه الهوام و الفراش فيحرقها و تسقط ميتة و رسالتي هنا لكل شاب بأن عقلك و جسمك هما أمانة من الله أودعها لديك و أمرك أن تبتعد عن كل ما يضرهما و يؤذيهما فهما يقولان لك اتقِ الله فينا و لا تدخلنا في تجربة المخدرات