نضال منصور - كالعادة تتحول المناقشات للموازنة العامة للدولة تحت قبة البرلمان إلى “سوق عكاظ”، وإلى مهرجان خطابي للهجاء والنقد للحكومة.
حين تسمع بعض خطابات النواب يعتريك شعور للوهلة الأولى أن الحكومة هالكة لا محالة، والموازنة ستواجه ولادة عسيرة، ولكن سرعان ما تتذكر بيت الشعر “أشبعتهم شتما وفازوا بالإبل”، ولهذا فإن الموازنة العامة ستمر بكل سهولة ويسر، وعلى الحكومة أن تهدئ من روعها، فالخطابات ليست أكثر من رصاص “فيشنك”.
أكثر خطاب بسيط يلخص الأزمة ولفت نظري كان للنائب محمد الظهرواي، فهو يعرض مشكلات بسيطة استعصت على الحل، فلو خالد بن الوليد أراد الذهاب للعبدلي من دوار الداخلية لهزم في غزواته، وصور مخالفات السيارات واضحة، في حين يعجز المواطن عن أخذ موعد لصورة طبقية في المستشفيات، وقصة عبقرية صاحب علكة شعراوي الذي يبيعها منذ الستينيات بقرش رغم الغلاء، فهو برأيه من يصلح وزيرا للاقتصاد.
مرور الموازنات ليس وليد هذا البرلمان، فمنذ العام 1989 والقصة تتكرر، تشرح الحكومات أزمتها الاقتصادية، وتقدم المبررات لتزايد المديونية، وتفيض في صرف الوعود بانتعاش الاقتصاد، ولا شيء يتحقق، والوضع الاقتصادي للناس على مر العقود يزداد سوءا، ولا أحد يُسائل الحكومات عن أرقامها ووعودها، فتنجو بفعلتها في استغفال الأردنيين، وكل ذلك يحدث تحت سمع وبصر البرلمان الذي ينظر له المجتمع على أنه شريك في التواطئ عليه.
قرأت كلمة وزير المالية محمد العسعس في خطاب الموازنة وفيها من روح التفاؤل الكثير، وفيها تركيز على أن نموذجنا الوطني يجب أن يكون واقعيا، وبعيدا عن الأوهام والأمنيات، وهذا صحيح بدل الكذب والتزييف.
يقول العسعس إن الموازنة تأتي وسط ظروف صعبة لأن الأردن تعرض لصدمة شديدة بسبب جائحة كورونا، وإن ذلك أثقل كاهل الخزينة في ضوء تراجع الأنشطة الاقتصادية، والحاجة إلى توفير موارد إضافية للإنفاق على الصحة، والحماية الاجتماعية، ودعم القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررا.
لا نختلف مع الوزير في أن الجائحة مثلت صدمة، وعلى الوزير أن يتذكر أن ما تعرضنا له، تعاملت معه كل دول العالم، وبأننا نقترب من دخول العام الثالث للأزمة، وأن هناك دولا كثيرة في العالم قدمت مقاربات أفضل منا، وتدخلت لتقديم مساعدات مباشرة للناس بفعالية أكثر.
في كل الأحوال يرى العسعس أن أحد أهم الأسباب للاختلالات والتشوهات للسياسات المالية، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وارتفاع حجم الدين العام، والاعتماد على المنح الخارجية يرجع للتهرب والتجنب الضريبي، والناجم عن خلل في منظومة التشريعات.
لم نسمع من الوزير العسعس الأسباب الأخرى للأزمات الاقتصادية، ولا نعرف هل يكفي تحسن الإيرادات الضريبية لفكفكة أزمتنا في البلاد، فهو يشير إلى الاقتراب من الاعتماد على الذات لأن الإيرادات المحلية بلغت 88.4 % من النفقات الجارية، ولذلك يشدد أن الحل المطلوب هو التوقف عن أي استثناءات، أو إعفاءات ضريبية.
يعد الوزير بعدم فرض ضرائب أو رسوم جديدة في هذا العام، ويبشر بالتعافي الاقتصادي، وبتراجع معدلات البطالة، وتحقيق نمو وصل إلى 2 % مع نهاية العام الماضي، ويؤكد أن أولوية الحكومة تركز على تحسين بيئة الاستثمار وممارسة الأعمال، وتعزيز المنافسة وتحفيز التشغيل، ودعم القطاعات الاقتصادية ذات الأولوية مثل السياحة، وتكنولوجيا المعلومات.
لا نعارض الأولويات التي تحدث عنها الوزير، والمشكلة ليست في خطابه الواقعي، وإنما في ثقة الناس ببرامج وخطط الحكومات.
ما يهم المجتمع أن يرى أثرا ملموسا على حياته، وأن لا يُطبق الفقر على عنق عائلته.
قبل جائحة كورونا وخلالها تعمقت الأزمات، وتراجع مستوى الخدمات التي تمس حياتهم، وعلى وزير المالية وحكومته أن تجد حلولا لمشكلات مستعصية كجودة التعليم، والصحة، والنقل، والطاقة.
حتى يتفاءل الناس مثل الوزير يريدون أفعالا تنقذ التعليم العمومي المنهار، وحتى التعليم الخاص باستثناءات محدودة جشع واستغلال، وواقع الخدمات الصحية كارثة يعرفها كل من بقي منتظرا لأشهر لمراجعة عيادة متخصصة، أو إجراء عملية جراحية.
وفي قطاع النقل الحكاية إلى الآن، أننا نترحم على زمن مضى كنا في السبعينيات والثمانينيات لدينا “سرفيس” يلبي حاجتنا، والآن كل الرهانات على الباص السريع الذي شلته “الثلجة”، أما سر ملف الطاقة فهو في علم الغيب، وسداد فواتير المحروقات والكهرباء الشهرية كفيلة أن تجعل كل عائلة “مديونية” ومفلسة.
يا معالي الوزير هذا ما يبحث الناس عن حلول له، وعندما تجدها، وتنفذها سنبصم لكم أن الموازنة العامة للدولة “سحر” خارق لا اعتراض عليه.