مهدي مبارك عبد الله - لا زلنا نتذكر جيدا كيف أصيب الكثيرون حول العالم بالدهشة والذهول وهم يشاهدون في بث حي ومباشر دخول قيادات حركة طالبان بأسلحتهم وفي مشهد سريالي القصـر الرئاسي في كابل حيث جلس أحدهم حينها على كرسي الرئيس السابق أشرف غني في نفس الغرفة التي كان يدير منها التواصل مع المسؤولين الدوليين وبدأ بتلاوة سورة الفتح في مشهد يبدو وكأنه يحاكي فتح مكة
الحقيقة أن دخول طالبان العاصمة كابل بعد 20 عام من طردها منها على يد القوات الأمريكية في ديسمبر 2001 في أعقاب هجمات الحادي عشـر من سبتمبر وسيطرتهم على كامل أفغانستان بعد دخولها أو تسليمها العاصمة كابل يوم 15 اب من العام الماضي دون قتال يعد لحظة تاريخية لأهداف كان أهمها القضاء على حكم الحركة والرغبة في بناء دولة ديمقراطية تحفظ حقوق النساء وكرامة الناس وبالطبع كذلك محاربة تنظيم القاعدة وبالقدر الذي أوقع فيه الحدث نوعاً من الصدمة في العالم مما فرض تحليلات ومقاربات محيرة حول حقيقة ما حدث وما إذا كان بالفعل أمراً مدبراً أم لا
المفاجأة الكبرى أن البلاد سقطت خلال ساعات ودون قتال حيث تم تسليم القصر الرئاسي ومواقع البعثات الدبلوماسية لقادة من طالبان من قبل مسؤول أمن العاصمة بشكل سلمي لافت وان سقوط كابل بهذه السـرعة والسهولة اثار وقتها الكثير من الأسئلة حول من المسؤول عما حدث وأين هي القوات الأفغانية التي أنفق عليها المليارات وتم تزويدها بأحدث الأسلحة والمعدات وكيف تبخرت وماهي مكامن قوة الطرف الآخر طالبان وماذا عن الولايات المتحدة القوة العظمى ولماذا أصرت على الانسحاب امام تقدم طالبان وهل تفاجأت بهم أم تواطأت أم عقدت صفقة معهم
فشل القوات الأفغانية النظامية في الدفاع عن كابل وغيرها من المناطق لا يعفي أبداً واشنطن من المسؤولية بل إنها تتحمل المسؤولية الكبرى وفقاً للكثير من للمراقبين حتى من داخل أمريكا نفسها فقرارها بالانسحاب بهذه الطريقة ودون أخذ التطورات الميدانية بالحسبان وقبل توقيع اتفاق سلام شامل
اعتبر من وجهة نظر الكثيرين قراراً خاطئاً وغير محسوم المخاطر خاصة وأن الحركة لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه في الاتفاق الثنائي الذي أبرمه معها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في فبراير 2020 لإنهاء 20 عام من الوجود الأمريكي مقابل تعهد طالبان بعدم شن هجمات على القوات الأمريكية وقطع العلاقات مع القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى
والتخفيف من حدة العنف وتوقيع اتفاق سلام مع الحكومة الأفغانية حيث لم يتم الالتزام بأي من هذه الشروط ومع كل ذلك تمسك الرئيس الأمريكي جو بايدن بالاتفاق وأكد أن جميع القوات الأمريكية ستنسحب بحلول 31 أب حتى بعد وضوح فشل المحادثات بين الحكومة والحركة التي كانت تجري في العاصمة القطرية الدوحة منذ عام 2019 بينما كانت طلائع قوات طالبان تدخل العاصمة من كل أبوابها وهي تنتصر على جيش وطني مكون من 300 ألف فروا بدون قتال بعد أن صرفت عليه الإدارة الأمريكية ما يزيد عن 70 مليار دولار ووفرت له التدريب وكل صنوف السلاح المتطور من طائرات ومدافع ودبابات وصواريخ وعتاد وبنادق
الحقيقة أن هذا الموقف الأمريكي ورغم أنه ليس له ما يبرره من جوانب عدة حيث لم يكن هنالك أي بصيص للأمل في نهاية النفق المظلم وهو ما شجع طالبان على المضـي قدماً في مخططها واستغلالها الفرصة المناسبة بينما كانت واشنطن منشغلة بعملية الانسحاب لتتقدم نحو معظم الولايات بسـرعة وتحكم سيطرتها على العاصمة مجدداً بعد سنوات من طردها منها بالقوة الأطلسية المشتركة
لا شك في أن دخول طالبان العاصمة كان حدث تاريخي دولي وليس مجرد نصـر عسكري بدون قتال وهو يعني في النظرة المجردة المطلقة هزيمة شاملة للمشـروع الأمريكي الذي تم تدشينه بعد سقوط حكم الحركة عام 2001 وقبل ان يتعرض ذلك المشروع لضربات كثيرة انهكته بمرور الزمن في حاضنة شعبية دعمت طالبان ضد الاحتلال وأدواته حيث ظلت الحركة ملتزمة بالأيديولوجية الإسلامية من منظور الحاكمية لله وما يرتبط بهذا المنظور من مصطلحات مسمى إمارة أفغانستان الإسلامية الجمهورية وأمير المؤمنين بدلاً من رئيس الدولة أو الجمهورية والشريعة بدل القانون وأهل الحل والعقد والبعة بدلاً من البرلمان والانتخابات والديمقراطية
في المرحلة الأخيرة بدأت تتضح تدريجيا ملامح بعض الأسباب الكامنة وراء قرار واشنطن وحلفائها في حلف شمال الأطلسي سحب قواتهم من أفغانستان والسماح لحركة طالبان باستعادة السلطة منفردة دون أي مقاومة من القوى المحلية الحكومية او من قوات التحالف الدولي التي اكتفت بتأمين خروج أفرادها وبعض العملاء الأفغان الذين تعاونوا معها والذين شاهد العالم صورآلاف منهم وهم يتوسلون الأمريكان اصطحابهم إلى الخارج لدرجة التعلق بعجلات وأجنحة طائرات الشحن الأمريكية
يعلم الجميع ان أمريكا ( متمرسة في خذلان عملائها وأدواتها والعبرة فيما حصل مع شاه إيران في إيران وماركوس في الفيلبين ومبارك في مصر )
ما يمكن قوله بشكل صحيح وصريح ان القرار لم يكن نتيجة هزيمة عسكرية مدوية أو بسبب فشل بناء مؤسسات دولة مدنية ناجحة وإقرار حياة سياسية تعددية وقد كان هدف القرار المعلن هو الحد من النفقات العسكرية الضخمة وإعادة انتشار القوات الأميركية في مناطق جديدة تراها واشنطن مصدر تهديد جدي لمصالحها ولريادتها العالمية كما جرى توظيفه أيضا وتضمينه رسالة سياسية حول الرؤية الامريكية المستجدة لمستقبل بعض قضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
الرسالة التي كانت موجهة إلى كل أنظمة المنطقة وكافة القوى الدولية والإقليمية المهتمة بها حملت في طياتها تركيز كبير على أن واشنطن ليست في واردها التخلي عن استخدام ورقة الإسلام السياسي في علاقاتها مع دول المنطقة كأداة من بين أدوات تأمين مصالحها الكبرى وضمان استمرار نفوذها المهيمن هناك والتأكيد على أنها قادرة على تفعيل هذه الورقة وتحريكها متى تطلب الأمر ذلك وبالأسلوب الذي تراه مناسب وها هي اليوم تسهل عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان لما تحمله هذه العودة من إمكانية إثارة قلق وتوتر لدول كثيرة ولما قد يمثله انتصار طالبان كنموذج ملهم لعدد من التنظيمات المتطرفة في المنطقة
واشنطن بذلك أعطت الانطباع بأنها تقبلت المصير الذي آلت إليه الصيغ المختلفة للإسلام السياسي سواء من خلال هزائم انتخابية او قرارات قانونية في البلدان التي تتيح له إمكانية النشاط بصورة علنية أو من خلال تلقي ضربات أمنية قوية من طرف سلطات بعض الدول التي لم تخف سعيها إلى اجتثاث ظاهرة ما يسمى بالإسلام السياسي عبر تفكيك خلاياه السرية وتجفيف منابعه المالية وإعادة تأهيل بعض المناطق العشوائية الحاضنة لتفريخ أتباعه
تعبيد الطريق لطالبان والتغاضي عما اقترفته من جرائم أكد على أن السلطات الأميركية لم تصرف النظر كلية عن رغبتها في استمرار اللعب بورقة التيارات السياسية المتدثرة بالدين ويعود السبب في ذلك إلى قناعة واشنطن بعدم وجود أي بديل سياسي آخر منظم يمكن استغلاله لإبقاء جذوة التوتر متوقدة في جميع المنطقة وكذلك لإزعاج المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية العميقة المتحكمة في السلطة في عدد من البلدان والتي عارضت سابقا الرغبة الأميركية في ضرورة التمييز بين التنظيمات المتسمة بنوع من الاعتدال في سلوكها
وتلك التي تعتمد العنف والإرهاب وسيلة لبلوغ أهدافها رغم ان كل الوقائع تؤكد هزيمة أمريكا وحلف الأطلسي وأن طالبان ومن وضعية المنتصر دخلت العاصمة وليس من وضعية المساوم وبذلك حققت انتصاراً تاريخيا على الولايات المتحدة في حرب كلفتها ما يزيد عن 2 تريليون دولار وآلاف القتلى والجرحى وخرجت تجر أذيال الهزيمة على نحو يذكرنا بهزيمتها الماحقة في فيتنام
في ضوء ما سبق لا يبدو مستغربا ما يلاحظ من تراجع رهيب لبعض التنظيمات السياسية الإسلامية منزوعة الدسم مقابل تصاعد أدوار التنظيمات والميليشيات المسلحة السنية منها والشيعية الناشطة محليا في حدود دولة واحدة متحدية وأحيانا محاربة لسلطات تلك الدولة أو على الصعيد الإقليمي ضمن تحالفات بنفس طائفي قوي ومكشوف
اللافت للانتباه أن معظم هذه التنظيمات كثفت مؤخرا تحركاتها ورفع سقف تحدياتها بعد أن اعتبرت التغاضي الأميركي عن طالبان بمثابة ضوء أخضر يمكن استغلاله لتوسيع نفوذها كما يظهر من الحالات التالية على سبيل المثال حركة أنصار الله الحوثية التي بعدما رفعتها إدارة الرئيس بايدن من قائمة الحركات الإرهابية ازدادت شراسة وعنف كما اتضح خلال محاصرتها لمدينة مأرب وتماديها في قصف مناطق مدنية داخل السعودية والامارات بدلا من أن تجنح للتفاوض مع السلطات اليمنية الشرعية وفق القرارات الدولية والمبادرة الخليجية
كذلك حال مليشيات الحشد الشعبي العراقي الذي باركت واشنطن تأسيسه لمحاربة مقاتلي داعش ثم دعمت اعتباره مؤسسة حكومية شرعية بعدما تعاونت مع أعضائه بتأمين غطاء جوي لهم خلال مواجهتهم لفلول الدواعش وقد تعمدت واشنطن قبل مدة مهاجمة ثكنات الحشد على الحدود السورية لتعطيه مصداقية يمكنها تأجيج الحزازات المذهبية خاصة وأن الحشد لا ينفي نفسه الطائفي وأطماعه في التوسع داخل محافظات السنة التقليدية
وبخصوص تنظيم الشباب الإسلامي في الصومال الذي استفاد من سحب القوات الأميركية من الصومال في عهد الرئيس ترامب ومن المماطلة الحاصلة حاليا في خطوات تأسيس جيش صومالي موحد ليقوم بمد نفوذه في كامل وسط وجنوب الصومال اخذ بشكل كبير يتحدى السلطة المركزية في مقديشيو وينفيذ عمليات إرهابية في دول مجاورة مثل كينيا وقد استطاع استقطاب مواطنين كينيين وأوغنديين إلى صفوفه كما اخذ يهدد بتوسيع دائرة عدم الاستقرار في عموم شرق أفريقيا ويبدو أن ذلك هو المطلوب منه امريكيا
اما فيما يتعلق بداعش التي قيل إنها اندحرت بعد طردها من الموصل عاصمة خلافتها المزعومة سنة 2017 فها هي تعود مجددا في شكل خلايا إرهابية متحركة حيث تقول تقديرات الاستخبارات الغربية أن عدد مجنديها تجاوز مؤخرا 27 ألف مقاتل وهي لا زالت تمارس اسلوب حرب العصابات الموجعة في العراق وسوريا منطلقة من مناطق قريبة من قاعدة التنف السورية حيث تتمركز القوات الأميركية مما يدفع إلى الاعتقاد بأن تحريكها جاء بشكل مبيت لكبح تصاعد المطالب بسحب تلك القوات من العراق ولمنع تمدد القوات السورية النظامية شرق نهر الفرات
بحسب كل ما اسلفنا سابقا يظهر إن عودة طالبان التي اعتبرت نصرا الهيا مظفرا قد ألهمت العديد من التيارات المتطرفة الأخرى حيث لن تتردد في القيام بأعمال إرهاب وترويع إذا وجدت الظرف المناسب في إطار الاتفاق الخفي المزعوم بين حركة طالبان والإدارة الأمريكية ولهذا غلب على التحليلات التي أعقبت دخول حركة طالبان العاصمة الأفغانية كابول
وسيطرتها على معظم الولايات في زمن قياسي بعد تخلي الإدارة الأمريكية عنها وفرار رئيسها إلى دولة الإمارات حاملاً معه محتويات البنك المركزي من ذهب وعملة صعبة بالاستناد إلى نظرية المؤامرة بوجود اتفاق مسبق مع الإدارة الأمريكية والتشكيك بانتصار الحركة وهزيمة أمريكا استناداً إلى هذه النظرية بحيث يتم إخراج الانسحاب بطريقة لا تبدو فيه أمريكا لمهزومة ومندحرة
البعض الأخر من المراقبين ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بأن المساومة بين طالبان والأمريكان انطوت على الانسحاب الأمريكي مقابل أن تلعب طالبان دوراً تنفيذياً مستقبليا ضد الصين وطريق الحرير لصالح الإدارة الأمريكية رغم ان الحركة أعلنت بأنها ستقيم علاقة استراتيجية مع الصين في مواجهة تحالف أمريكا مع الهند وأن تشكل شوكةً في خاصرة إيران وكذلك أن تكون الثروة الثمينة لمعدن الليثيوم التي تكتنزها الجبال الأفغانية من حصة الشركات الأمريكية على وجه التحديد والذي يستخدم في مجال الطاقة المتجددة حيث قدرت قيمته بما لا يقل عن 1 تريليون دولار
الرئيس الأمريكي جو بايدن اعترف ضمنيا بالهزيمة في الخطاب الذي ألقاه بعد الانسحاب حين ادعى أنه لم يكن هدف أمريكا بناء الدولة الافغانية او إقامة الديمقراطية وأن هدفها كان محاربة الإرهاب وهذه التصريحات مناقضة بالكامل لكل ما جاء في مواقف الرؤساء الأمريكيين السابقين وخاصةً موقف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في تشرين اول عام 2001 في بداية الغزو الأمريكي لأفغانستان ناهيك أن هدف مكافحة الإرهاب الذي لم يتحقق والدلالة على ذلك أن تنظيم داعش خراسان برهن على وجوده من جديد على الأرض وبقوة عنيفة من خلال عمليته الانتحارية امام بوابات مطار كابول خلال عمليات الانسحاب والتي أدت إلى مصرع وجرح عشرات الجنود الأمريكان وبعض من عملاء أمريكا الذين كانوا متجمعين في المكان
أخيراً لا بد من التأكيد على أن أمريكا ومعها حلف شمال الأطلسي هزمت شر هزيمة في أفغانستان ولا يغير من واقع هذه الهزيمة المرة أنها تمت باتفاق أو بدونه كما أن هزيمتها هذه المرة أنهت إلى غير رجعة غطرسة إمبراطورتيها العظمى مثلما انتهى عصر بريطانيا العظمى التي لم تكن تغيب عنها الشمس بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وفي تكرار احداث وحوادث التاريخ عبرة لأولي الالباب
mahdimubarak@gmail.com