مهدي مبارك عبد الله - خلال مشاركة رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس مؤخرا في حفل العشاء السنوي المعتاد للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF ) ادعى زوراً وبهتان إن القدس عاصمة أبدية للشعب اليهودي وقال أنه ( لن يتوقف عن قولها ) وذلك في تمثيل لافت ومطابقة مستجدة لنسخة وعد بلفور صك العهر والعار البريطاني الذي ( أعطى مَن لا يملك لمَن لا يستحق )
وقد اضاف كاستكس في خطابه غير المحايد أن ما اسماه ( معاداة السامية ) غالبا ما تكون من عمل الإسلاميين المتطرفين على حد وصفه وأنه يرغب بتضمين محاربة معاداة السامية في كافة مشاريع مؤسسات التعليم العالي الفرنسي كما تعهد بالنضال بلا هوادة في محاربة معاداة السامية
هذا التغير المفاجئ في موقف فرنسا وسياساتها التقليدية تجاه القضية الفلسطينية اظهر بوضوح ازدواجية عمياء وتصورات خرقاء في المعايير المرفوضة التي تنتهجها الحكومة الفرنسية في تعاملها مع اهم واخطر قضايا المنطقة وهو ما سيكون له أثر سلبي كبير على علاقاتها ومصالحها في فلسطين والعالم اجمع وبما يوجب عليها الاعتذار والتراجع عن هذه القرارات ووقف انحيازها المكشوف لدولة الاحتلال والابارتهايد ضد أبناء الشعب الفلسطيني بأكمله ناهيك عن قتلها المستمر لمشروع السلام وفكرة حل الدولتين وبشكل يومي عن طريق توسعها الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين
تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي فيما يتعلق بمدينة القدس واجتراره قرية واكذوبة معادة السامية المثيرة للجدل ترهات وأسطوانة نشاز مشروخة يعاد انتاجها من جديد كانت وما زلت وستبقى مستنكرة ومرفوضة جملة وتفصيلا ولن يقبل بها أي عربي أو مسلم باعتبارها تمس قضية مقدسة عند العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم وهي في مدلولاتها تعكس فهماً قاصراً وقراءة سطحية للأحداث وتعبر عن فكر استعماري قديم انتهى عصره
فضلا عن انها تعتبر مخالفة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تؤكد أن القدس الشرقية أرض فلسطينية محتلة كما انها تشجع الاحتلال على ممارساته الاجرامية والتهويدية بالمدينة المحتلة وتقضي أيضا على طموحات الفلسطينيين في إنشاء دولتهم على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وهي التسوية التاريخية التي قبلها الفلسطينيون
عمليا لا يمكن تفسير هذه التصريحات المشبوهة وفي هذا الوقت الا في اطار الانحدار والتهافت الفرنسي الخطير لإرضاء إسرائيل وأمريكا على حساب الحقوق والثوابت الفلسطينية والعربية والإسلامية وبجهلها الواضح لحقائق التاريخ وطبيعة الصراع وحق الفلسطينيين المطلق في ارضه ومستقبله والذي لا يقبل التجزئة ولا المساومة
الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للشعب اليهودي من قبل رئيس الوزراء الفرنسي ادعاء باطل ومنافق وغير شرعي وليس قانوني وفيه تعزيز للموقف الفرنسي التاريخي كما ويعتبر اصطفافا الى جانب دولة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري وانتصارا للمعسكر اليميني المتطرف وتحريضه على مواصلة جرائمه ضدّ مدينة القدس المحتلة ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وان لها تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار في المنطقة كما انها تقوض فرص السلام وتستفز مشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين
القدس هي عاصمة دولة فلسطين كانت وستبقى ملكا للشعب الفلسطيني ووجهة للامة العربية والاسلامية لن تقبل بالاحتلال ولا لاي وقائع تفرض بالقوة ف ( الحق اقوى من اي قوة واي عدوان )
أهمية هذا التصريح تبرز الان في مساهمته في الحد من مصداقية الفكرة الشائعة عربيا والقائلة باهتمام فرنسا بالحقوق العربية وانحيازها إلى القضايا العربية عموما وعلى سبيل المثال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك المعروف بمواقفه المساندة للعرب والمنتقدة للسياسات الإسرائيلية كان أول رئيس فرنسي اعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن محنة يهودها خلال الحرب العالمية الثانية
العلاقة بين فرنسا وإسرائيل كانت دائما وثيقة واستراتيجية رغم منحى الصعود والأفول الذي أخذته أحيانا وقد بدأت حتى قبل قيام إسرائيل حيث دعمت فرنسا اليهود ضد السلطات البريطانية وصوتت لصالح قرار التقسيم الأممي آنذاك ولدى قيام إسرائيل لعبت فرنسا دورا رياديا في حيازتها الأسلحة المتطورة للدفاع عن نفسها وفي مقدمتها النووية سنة 1956 وبقيت حتى اليوم الصديقة والحليفة الأبدية لإسرائيل مثلما كانت اول مهد للحركات التنظيمية اليهودية المتطرفة
التحالف بين البلدين بنيوي وليس وقتيا لهذا صمد أمام بورصة التوترات السياسية لأن الحد الأدنى من التضامن الاستراتيجي بقى قائما بل إن العلاقة بقيت قوية وحميمية فزيارة رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق دومينيك دو فيلبان لإسرائيل عام 2010 وخطابه في القدس كان في أحلك مراحل التوتر بين باريس وتل ابيب
كما تعنبر فرنسا ثاني مصدر لواردات إسرائيل وتاسع وجهة لصادراتها وهي أيضا ثاني وجهة سياحية للإسرائيليين بعد الولايات المتحدة أما عسكريا فقد عاودت فرنسا تعاونها العسكري مع إسرائيل في عام 1993 عند انطلاق عملية أوسلو وقد أعلنت في يونيو/حزيران 2004 توقيع اتفاقات عسكرية معها
العالم تخلص بعد صلح وستفاليا 1648 من التصنيفات والمعايير الدينية والمذهبية لكنه عاد لها من باب ( الاستثناء الإسرائيلي ) ليجعل القناعات الدينية ضيف غير مرغوب فيه وفق مفهوم معاداة السامية هذا الاصطلاح الخلافي حتى بين الصهاينة انفسهم خاصة وان تبعاته السياسية كانت أكبر بكثير من ترف النقاشات الفكرية والنظرية الجارية حيثما تعرضت إسرائيل لمجرد النقد المستحق
وان عواقب الإلحاح على قوننته ودسترته ستقود الغالم الى حروب عقائدية دولية سيما انه لا سبيل أمام إسرائيل لتحقيق الأمن وفق التصور الصهيوني اليميني إلا أن يقبل العالم بوجودها كدولة فصل عنصري خالصة اليهودية وان حربها في الضفة الغربية ومدن ما يسمى بالخط الأخضر وغزة هي اختيار لم تضطر إليه بسبب إطلاق الصواريخ والعمليات العسكرية بل لأنه اختيار تمليه عليها طبيعتها المعادية للإنسانية
جدلية معاداة السامية أهم بكثير بالنسبة لإسرائيل من المواقف الإقليمية الفرنسية حيث استدعي في وقت سابق السفير الفرنسي في تل أبيب 10 مرات من قبل الخارجية الإسرائيلية بسبب سلوكيات معاداة السامية في فرنسا وليس بسبب عملية السلام وقد اتهم الإسرائيليون الفرنسيين مرات عديدة بعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من تنامي الأعمال المعادية للسامية حسب زعمهم غير الحقيقي
للحقيقة في هذا الصدد يمكن القول إن غالبية المنتقدين لسياسات إسرائيل من الفلسطينيين ومناصريهم محقون في ذلك فسياسات الدولة العنصرية مبنية على انتهاك حقوق الفلسطينيين التي يجب أن تدان في ظل التعصب الأعمى لكنهم يؤكدون دائما على أهمية التفرقة بين تصرفات الحكومة الإسرائيلية والتوسعيين الصهاينة عن ( اليهودية واليهود ) ويعتبرون إن معاداة الصهيونية ليست معاداةً للسامية
في ذات السياق لا بد من الإشارة أيضا الى قرار وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمين الأخير بحل جمعيات مناصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وهما مؤسستي ( رابطة فلسطين ستنتصر ) ولجنة ( العمل من اجل فلسطين ) وذلك في اطار الخضوع لضغط اللوبي اليهودي والتبني المطلق السردية الصهيونية ومعاداة الحرية والديموقراطية وقيم العدالة والحق والاعتداء على مبادي حرية الرأي والتعبير
هذه التصريحات المدانة والمستنكرة تتساوق وتتماهى مع الرواية الصهيونية التلمودية الزائفة وتؤيد الأجندة العنصرية وممارسات التطرف والإرهاب وعمليات التطهير العرقي والسياسات الاستعمارية ضدّ الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وأرضه المغتصبة التي يتعامل بها الاحتلال الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني عموما ومع القدس وأهلها على وجه الخصوص والتي تغذيها وتشجعها مثل هذه الأقاويل المنافقة والتصريحات الباطلة التي يرددها المسئولين الفرنسيين وغيرهم في المحافل الدولية
هذه التحركات المضللة والمشبوهة وغيرها ستظل قاصرة وعاجزة ولا يمكنها أن تغير الحقائق التاريخية والدينية او ان تمنح الاحتلال شرعية مزعومة على مدينة القدس المحتلة او الأرض الفلسطينية خاصة وأن كافة المواثيق والأعراف والقرارات الدولية ترفض السياسة الاستيطانية في القدس والتي لا تتوافق حتى مع مواقف الاتحاد الأوروبي الذي تشكل فرنسا أحد أركانه الرئيسية
يذكر ان إسرائيل احتلت القدس الشرقية عام 1967 وأعلنت لاحقا ضمها إلى القدس الغربية ثم اعتمدتها عاصمة موحدة وأبدية لها وهو ما يرفض المجتمع الدولي الاعتراف به ولا زالت تل ابيب تنكر الاعتراف بحق الفلسطينيين في القدس الشرقية او مناقشة قضايا الوضع النهائي ومن ضمنها القدس في اي مفاوضات مقبلة رغم فشلها الحتمي على ارض الواقع
أخيرا على الحكومة الفرنسية ممثلة برئيسها جان كاستكس ان تعي جيدا ان القدس أرض عربية وإسلامية منذ الازل وهي حق خالص للفلسطينيين ومهما بلغ مستوى النفاق والانحياز وتزييف الحقائق سيبقى الشعب الفلسطيني بصموده ودماء شهدائه وتضحياته ابطاله متمسك بحقّه المشروع في طرد الغزاة وتحرير الارض والعودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها الأبدية القدس الشريف
ولن تكون هنالك أي شرعية لاحتلال فلسطين ولا للوجود الطارئ للصهاينة على ترابها الطهور وان كل محاولات تغيير وتزوير الوقائع التاريخية والدينية على الأرض لشرعنة الاحتلال الصهيوني لفلسطين ستبوء بالفشل والهزيمة والله غالب على امره ولو كره الكافرون
mahdimubarak@gmail.com