حسن محمد الزبن - اذا كان الجيش الروسي في المرتبة الثانية بين أقوى جيوش العالم، في حين أن الجيش الأوكراني في المرتبة الثانية والعشرين عالميًا، هذا يعني بونا شاسعا في ميزان القوة، فسابقا كان الاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم الذي يمثل القدرة الروسية (أو السوفييتية سابقا)، وكذلك الأمر ما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وأفغانستان عام 1979، كانت النتائج محسومة بقدرة القوات الروسية وكفاءتها من حيث السرعة والمفاجأة، وفي عام 2008، أقدم الروس على هجوم لجورجيا بزمن قياسي في عالم خوض الحروب.
وفيما يخص الحرب الروسية- الاوكرانية، يظهر الجيش الروسي في عملياته القتالية قدراته المعروفة، واتقان الحرب الخاطفة، فلا يمكن معرفة استراتيجياته فهي لا تخضع لنمط واحد، وتحتار المدارس العسكرية الغربية في التكهن بما يفكر، لأنه ببساطة يوازن في تخطيطه الاستراتيجي الأوضاع الطارئة أو المفاجئة، حسب المتغيرات على أرض الصراع، والتعامل حسب التوصيف الاستطلاعي لخبرائه العسكريين لإمكانية القوات الأوكرانية، والأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأرض التي يقف عليها، والأخذ بمبدأ المبادرة(الهجوم)، ويعرف متى يزيد درجات التصعيد، أو استغلال وقف النار واللهب لصالحه، في حين يقرر وقت مستقطع لإخلاء الحالات الإنسانية ومرور المهجّرين لمنطقة محايدة.
ورغم القدرة التي يتمتع بها الجيش الروسي إلا أنه لا يُحسن استخدام هذه القدرة إلا ويتخلل أداءه الإرباك، فأكثر ما يحرص عليه احباط أي محاولة تهدد مصالحه ومدنه الرئيسية ومنشآته الصناعية. لهذا لن تسعى روسيا لتوسعة الصراع لأبعد من أوكرانيا، فليس من مصلحتها توسعة نطاق الحرب، وستوظف أسباب عدة وأساليب محددة حتى لا تطول الحرب، حتى لا تقع في مواجهة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإذا لاحظنا ليس هناك توجه من قبل أمريكا أو الحلفاء دول أوروبا بخوض حرب مباشرة مع الروس، حتى الصين الحليف لروسيا يترقب الوضع، فالموضوع ليس بالأمر السهل؛ فالروس يملكون ترسانة نووية ضخمة، ودفاعات جوية متعددة الطبقات، إضافة إلى الدروع الدفاعية والاسلحة التقليدية بشتى أنواعها، هذا عدا عن القواعد العسكرية المترامية في الجوار، والبارجات الحربية والغواصات الحربية في البحر، وقد تكون بهذه الظروف أخذت احتياطها وعملت على نشر أنظمة دفاعية وأسلحة هجومية بعيدة المدى موسعة النطاق، فالأمر بخلاف ذلك وتعدى الهجوم على أوكرانيا، فإنه يعني حرب نووية (عالمية ثالثة).
ولا يمكن تجاهل مواطن الضعف التقليدية لروسيا إذا ما أجبرت على حرب طويلة الأمد مع خصمها، وستعمل بخطط عسكرية تجيدها القوات الروسية ومدربة عليها، وهي التحرك غير المباشر والردود غير المتماثلة عبر مجالات متعددة من أجل الحد من حالات انعدام التوازن التي يمكن أن تظهر بأداء القوات العسكرية، وستحاول روسيا إنهاء الصراع بسرعة، مستخدمة سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى السيطرة على ديناميكيات التصعيد، وكما أسلفت الضمان الأخير لإدارة التصعيد الروسي، هو ترسانة روسيا من الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية؛ فهي قد تهدد باستخدام أسلحتها أو قد تستخدمها ردا على هجوم تقليدي قد يقوض سيطرة النظام على الدولة أو يهدد رادع روسيا النووي، والعمليات العسكرية الروسية ستبقى تعتمد على الهجوم المفاجئ السريع لتحقيق هدف الهجوم على اوكرانيا، بزمن قياسي وبجهد مضاعف لتشكيلات القوات البرية المسلحة الروسية؛ ومن الممكن نشر وحداتها عبر السكك الحديدية لبناء قوة قتالية برية وعلى المستويين العملياتي والتكتيكي، وستركز على الأرجح على ضرب القيادة العسكرية الاوكرانية وشل قدراتها الدفاعية من خلال استخدام النيران الحركية، والحرب السيبرانية/الإلكترونية، والتحرك المباشر من قبل قوات المناورات لادراكها عدم القدرة على الضربة الدقيقة التقليدية البعيدة المدى التي يمكن استخدامها ضد أهداف عملياتية واستراتيجية رئيسية، وبالأخص تلك الموجودة في مواقع ثابتة ومعروفة.
تعمل روسيا لضرب الاستقرار في شرق أوكرانيا ونلاحظ أن القوات الروسية ما زالت قريبة من حدود بلادها، فالهدف من دخول اوكرانيا كان واضح بأن تكون دولة عازلة، بمعنى صمام أمان للحدود الروسية، سبقه التلويح بالرفض الشديد من انضمامها لحلف شمال الأطلسي (الناتو). ولأجل هذا كان الصدام حتميا.
وعلى الأغلب استخدمت لتحديد موقع القيادة الأوكرانية وأنظمة المراقبة الخاصة به وتسعى لتدميرها بالاعتماد على الأساليب الالكترونية أو السيبرانية، وممارسة التضليلmaskirovka ، الذي ينطوي على إخفاء القوات والنوايا، بالإضافة إلى استخدام الأفخاخ والخداع لتضليل الجيش الأوكراني؛ ففي عام 2010، استبدلت قيادات روسيا الاستراتيجية المشتركة الجديدة المناطق العسكرية القديمة ومنحت القادة سيطرة عملياتية على القوات البرية، وقوات الفضاء الجوي، والقوات البحرية، بما يشبه إلى حد كبير قيادات المقاتلين الأمريكيين، ويركز الجيش الروسي، منذ عام 2017، في عملياته العسكرية على فضاء معلومات موحد، وهذا ما يحدث الآن على أرض الصراع، وقد تتدخل الوحدات العسكرية التقليدية الروسية كما حدث في أغسطس/آب 2014، عندما كان الانفصاليون الروس في شرق أوكرانيا على شفير الهزيمة في وجه القوات الموالية لأوكرانيا، وقد تستخدم روسيا تكتيكات مماثلة ضد الأوكرانيين.
فروسيا توفر لديها المعلومات مسبقا قبل الهجوم، وركزت ضرباتها ضد أهداف حساسة وذات قيمة عالية في أوكرانيا، وأثبتت نجاعتها في القدرات الروسية غير المتماثلة، كما حدث في ضوء العمليات التي أدت إلى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمها وزعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا، في جوار دونيتسك ولوهانسك، وقد يشكل الاستخدام الروسي لقوات العمليات الخاصة الروسية (اسبييتسناز) (Spetsnaz)، والخدمات الاستخباراتية والقوات شبه العسكرية عنصرا مهما بعملياتها الأخيرة، فالجهد الرئيسي بمجموعة من المهام التي تجري بقيادة قوات العمليات الخاصة (SOF)، كما جرى في المراحل الأولية في شرق أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم. ويمكن أيضا استخدام القوات شبه العسكرية، وقوات العمليات الخاصة (SOF)، ووحدات من القوات التي لا تحمل دلالات على أنها من الجيش الروسي في المراحل الأولى من الهجوم، وهذا أسلوب من الأساليب التي يمكن أن تعمل به، وقد تضطلع قوات العمليات الخاصة الروسية اسبييشتاز) (Spetsnaz) بمهامها التقليدية المتمثلة بالاستطلاع الاستراتيجي والتحرك المباشر في سياق الإعدادات المتعمدة لعمليات الهجوم التي تنفذها، ففي حال واجه عنصر قوات العمليات الخاصة (SOF) في الحملة هزيمة في وجه جيش التكتيكات عليه الضرب بقوة والتحرك بسرعة، وستستمر التكتيكات الروسية بالتركيز بشدة على اكتساب التفوق من حيث النيران الموجهة للجيش الأوكراني.
ولا يمكن اغفال القلق الروسي من ردة فعل دخوله اوكرانيا، من تدخل امريكا بتنفيذ حملة تقليدية واسعة النطاق في الفضاء الجوي ضد الداخل الروسي، مما استدعى مسبقا تعزيز النفوذ الروسي في الدول العازلة على طول حدودها وعلى تعزيز سلسلة من الدروع الدفاعية، لاستغلال الفضاء والوقت من أجل التعبئة القصوى لاحتمالات خوض حرب واسعة النطاق باستخدام الردع النووي، وقد حصنت روسيا نفسها بمجموعة طويلة من الإتفاقيات والمعاهدات الدفاعية مع الجمهوريات السوفييتية السابقة وعززت وجودها بقواعد عسكرية في أغلب هذه الجمهوريات، لقد استثمرت روسيا إلى حد كبير في الدفاعات الجوية وهي تملك إحدى شبكات الدفاع الجوي الأكثر تقدما وتفوقا في العالم، وهذا مرهون ببقاء روسيا في إطار حدود أوكرانيا، وإلا ستكون المواجهة قاب قوسين أو أدنى مع أمريكا وحلفائها، ولن يفلح "الفيتو" بإخراج الروس من المواجهة التي ستكون كارثية على العالم.