سأتحدث عن جامعة هي «الحسين التقنية» وعن مدرسة هي «المعمدانية» ونحن نناقش إصلاح التعليم والتعليم العالي والمثال الحالم الذي نتطلع اليه بينما المثال موجود كحقيقة قائمة بين ظهرانينا لكنه أشبه بواحة خضراء منفصلة وسط صحراء قاحلة.
تشرفت ان أكون مع وفد لجنة العمل من مجلس الأعيان في زيارة لجامعة الحسين التقنية وهي قامت بتخريج أول فوج من طلبتها منتصف ديسمبر الماضي. وفي اليوم التالي تشرفت برعاية حفل افتتاح «نموذج الأمم المتحدة» في المدرسة المعمدانية وكانت فرصة للاحتكاك بالطلبة والهيئة التدريسية ومعرفة كيف تسير الأمور هناك وفي المناسبتين كان الأمر ملهما بحق.
لم يسمعنا ا.د. إسماعيل الحنطي رئيس الجامعة ما يطربنا بل ما يعتقدونه صوابا ويمارسونه على الأرض وها هو يتحول الى قصّة نجاح. من التأسيس بمبادرة من مؤسسة ولي العهد ورعاية حثيثة من سمو الأمير الحسين تم تطبيق فلسفة محددة فتم الذهاب مباشرة لإستئجار مبان في مجمع الأعمال وسط مكاتب الشركات والمؤسسات الرائدة وإنشاء هناغر للمختبرات والتدريب الفني بدل شراء ارض وصرف بضع سنوات وأموال طائلة لبناء حرم جامعي مسوّر ومعزول مع حرس على الباب يطلبون ابراز هوية للدخول!! د. لبيب الخضرا رئيس الجامعة في حينه وفريق التدريس والإدارة كان يمتلك رؤية طبقت دون مجاملة او مساومة وصممت المناهج بارتباط مباشر مع سوق العمل واحتياجاته وتم بناء شراكات مع الشركات في الميدان والحال ان طالبا واحدا لا يبق عاطلا عن العمل بعد التخرج واحيانا قبل التخرج.
الجامعة الصغيرة تقتصر على تخصصات هندسية وتكنولوجية لكن المفاهيم الأكثر حداثة في التعليم ما بعد الثانوي تنطبق على كل الفروع. الدراسة العملية المفيدة بدل النصوص المحفوظة وهي بنسبة 80% لا فائدة ولا عودة لها ابدا حيث يعود الخريج ليبدأ من الصفر بناء معارفه العملية هذا اذا وجد من يأخذه. وحتى نظام القبول في الجامعات الذي نجادل حوله من عقدين دون نتيجة تم تجاوزه وضرب الرئيس مثالا عن طالب تم قبوله بمعدل متوسط اظهر عبقرية وتحول الى مخترع اثناء دراسته.
بعد حفل الافتتاح في المدرسة المعمدانية تجولنا في القاعات (أروقة الأمم المتحدة الافتراضية) حيث يناقش «ممثلو الدول» قضايا شائكة.. من ازمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينات الى العملة المشفرة اليوم (البيتكوين) وسيتم على نحو طارئ ادخال ازمة الحرب الأوكرانية وسيضطر الطلبة للقراءة عنها ان لم يكونوا قد فعلوا أصلا مع الاهتمام الثقافي الذي تخلقه المدرسة عند الطلبة. وفي غرفة أخرى كانت تعقد محكمة جرائم الحرب الدولية للنظر في الدعوى المقدمة ضد توني بلير بسبب غزو العراق. والطلبة من الصفوف الثانوية يتحضرون لهذا النشاط منذ ثلاثة اشهر ولا بأس ان يكون على حساب حفظ نصوص جامدة لا تفيد الا في تعذيب الطلبة واستنزاف جهدهم واحباط حماسهم.
هناك بضعة مدارس مميزة فقط تطبق هذا البرنامج الى جانب الكثير من الأنشطة اللامنهجية وكنت قد كتبت قبل سنوات عن مدرسة اليوبيل وقلت اصلاح التعليم لا يحتاج الى الكثير من المال بل الإرادة والجهد العنيد للاقتداء بهذا النموذج للمدارس.
لدينا اليوم وزير واحد للتربية والتعليم والتعليم العالي يستطيع ان يحقق التناغم في الإصلاح والتحديث لكلا المستويين وهو للحقيقة منحاز بحق للرؤية الإصلاحية لكن في التطبيق والتفاصيل يواجه مقاومة وآراء محافظة لا تحب المغامرة ولا «التجريب». لكن من قال اننا نجرب بأهواء منحازة؟! لدينا نماذج مطبقة فعلا للإصلاح نقترح على الوزير الاستقواء بها لدفع عملية التغيير.