بحذر شديد، وروية عالية، ودقة متناهية، تماما مثل تعليق إبرة المغذي، استعداد للألم، ساعات من التفكر والتفكير، استرخاء وابتسامة مثل الحلم تماما، وجع وخدر، لحظات من الغيبوبة، ثم الصحيان، شعور بالبرد، خفقان شديد بالقلب، هذا باختصار كل ما تتمثله وتشعر به وانت تقرأ محمد داودية؛ الانسان، المعلم، السياسي، الصحفي،العامل، الابن، الاب.
ثلاثة ارباع القرن، كم يلزمك من الألم والأمل وانت تقرأ داودية ؛ الحياة، الشقاء، التعب، العرق، الخوف، الموت، التسامح، الشرف، القوة، الحق، العدل.
كيف لك ان تلخص الحياة بكل ما فيها بكلمتين ؛ محمد داودية.
قرأت الاف الكتب والروايات والقصص والسيرة والخواطر والمقالات، لكن قراءة داودية بكتابه «من الكسارة الى الوزارة» لم يكن بالامر اليسير.
في الكتب التي تعرف صاحبها جيدا، فأنت تقرأ الكاتب، لا الكتاب.
من بئر ابو العلق، الى الدجنيه، ثم حمامة، والمفرق والزرقاء واربد والبتراء ووادي موسى ومعان، حين تقرأ داوديه تشتم رائحة الدحنون والقيصوم والخزامى والشيح في معان ووادي موسى وسناسل الدجنيه، ورائحة حليب النعاج لحظة الحلب، رائحة الطبشورة على لوح مدرسة بير ابو العلق.
تشتم انفاس العراقية فاطمة، تشتم رائحة جضه حين تفرغ من اعداد عجينة الشراك.
من قال ان الكتب تقرأ، لا يعرف قيمة الرجال حين يكتبون بصدق وحب ومودة، الكتب تؤكل وتهضم، وتعشش في الرأس؛ فكرة وموقف ورأي، تراجعها في عديد المواقف والعبر.
«من الكسارة الى الوزارة» ليس سيرة، بل مسيرة، ليس قصة، بل قصصا، ليس رواية، بل روايات.
لم اقرأ في حياتي ولم اعرف على حدود معرفتي رجلا يعادل داودية شرفا وعفة وصدقا ومنطقا وحجة وقيادة وشفافية وتواضعا.
يتيم، لكنه يوزع ابوة علينا جميعا، ليس غنيا، لكنه اغنى من كل رجال الاعمال، رجل تحتار في وصفه، وكنيته ولقبه، تبحث في المعاجم والقواميس لتعطيه حقه من الوصف، حين تعجز ان تجد سوى «محمد داودية» لتختصر كل شيء.
عبر مركزة وطازجة وحارة مثل خبز الطابون ؛ لا تسلم اخاك، غماسك من غماس ناسك.
تخذلني الكلمات، وتتنحى الاحرف جانبا، وتفلت مني التعابير، وانا الذي طوعت الحرف جملا، شيدت منها عالما من الحياة، وآخر من الموت.
يعجزني الوصف يا صديقي، فأرفع عقالي احتراما لرجل ما غيرته المواقع، لا ولا بدلته الكراسي،ولد كبيرا وعاش كبيرا، تماما مثل السنديان في وطني، مثل القهوة السادة، مثل الهيل، مثل الجبال، مثل الارض، مثل السكر، مثل الملح.
داودية ؛نكهات متعددة برجل واحد، اتعب الحياة وما تعب، اتعب الدروب وما استكان، اتعب المعارك، فأعلنت استسلامها.
رجل بحجم وطن من البترا الى الرمثا، من الاغوار الى الاجفور.
للكتب نكهات، تتذوقها، وتتلمظها مثل حبة الملبس، لكن لـ «من الكسارة الى الوزرة « نكهات كل الارض بكتاب واحدٍ.