الدكتور المهندس أحمد الحسبان - استولت القوات الاوكرانية مؤخراً - قبل يومين - على أهم وأحدث نظام حرب اليكترونية للقوات الروسية يسمى كوروسكا- 4، وهو نظام فعال لتحييد دور الاقمار الصناعية التجسسية ذات المدار المنخفض LEO، والرادارات الارضية، والمحمولة جواً (أواكس)، والطائرات المسيرة عن بعد، والصواريح الموجههة المعادية، ويعمل على التشويش على نطاقات الترددات الاساسية لها وبمدى ٣٠٠ كم، مما يوفر حماية للقوات البرية والجوية الروسية ضد الهجمات الاليكترونية المعادية اثناء تقدمها في الاراضي الاوكرانية، حيث تستطيع باستخدامه تمييز ما يطير نحوها ومتى، واستغرق بناؤه عشرة أعوام من قبل الشركات الدفاعية الروسية مجتمعة، وهو محمول على آليتين عسكريتين مصفحتين ضد الاسلحة الخفيفة. ولكن السؤال الاهم ذو الاجابة المبهمة، لماذا تركت القوات الروسية هذا النظام الحساس في أرض المعركة دون المحافظة عليه، أو على الاقل تفجيره، لكي لا تتمكن القوات الاوكرانية من الاستيلاء عليه صالحاً، ومن ثم تحليله ومعرفة اسراره ومبدأ عمله، وتتمكن من تحييده عن العمل مستقبلاً.
في الحقيقة، تصدق المقولة المشهورة: "الحقيقة هي أول ضحية للحرب" ، فالبرغم من أن القوات الاوكرانية، والتحالف الاوروبي والامريكي من خلفها، اعتبرت هذه الغنيمة هي الاعظم منذ بدء الحرب، وخططوا لنقل هذا النظام وآلياته براً الى مقر القوات الامريكية في المانيا- رامشتاين ومن ثم جواً الى الولايات المتحدة - حسب صحيفة ذا تيلغراف البريطانية، لتحليله ومعرفة أسراره، بالرغم من ذلك، فالقوات الروسية تركت النظام في أرض المعركة ولم تبدي اهتماما لهذه الخسارة الاليكترونية العظيمة، والغرابة في الموضوع انها لم تعمد لتفجيره على الاقل لمنع تسريب اسراره لأعدائها من التحالف الاوكراني - الاروربي - الامريكي. هناك احتمالين واردين على الاقل خلف هذه الخسارة الاليكترونية، وممكن أكثر، وهما إما قصور روسي، أو خدعة روسية.
في حال ان السبب هو قصور روسي لحماية النظام، فهذا فعلا يدل على بدء تسلل الوهن والضعف بالقوات الروسية لمزيد من التقدم في الاراضي الاوكرانية لتحقيق هدف الحرب المنشود، فمثل هذه الخسارة - حسب المعلومات المتوفرة عنها بالإنترنت - هي خسارة عظيمة من دولة اشتهرت بقوتها في مجال معدات الحرب الاليكترونية والسيبرانية المصاحبة للحرب التقليدية - بما يعرف بالحرب الهجينة، ومنذ عام ٢٠١٤ عندما احتلت جزيرة القرم الاوكرانية، وظهرت قوتها هذه واضحة في الحرب السورية كذلك بمختلف اساليب التشويش الاليكتروني، وفي تمرينات الناتو عندما استطاعت التشويش على اشارة ال GPS كاملة وأدت لخسائر تصادم الفرقاطات البحرية في الاجواء السيئة نتيجة لذلك في شتاء عام ٢٠١٨ في النرويج. نسبة احتمالية ورود هذا السبب القصوري تزيد مع تأخر القوات الروسية بتحقيق اهدافها في أوكرانيا، ويرتبط فعلياً باستراتيجة الحرب البطيئة المتبعة، فهي لم تحقق سيطرة جوية فعليا لغاية الان، على الاكثر حققت تفوق جوي فقط، مع أنها كقوة اقليمية - ودولية أيضاً - مصنفة من أقوى الجيوش عالمياً، ولكن الخطط العسكرية قد تختلف باختلاف معطيات الجغرافيا والسياسة والاهداف، وخاصة في حرب المدن والشوارع في بلد يتناسق أهله ديموغرافيا ودينيا مع الروس، فالمحافظة على ممتلكاته مكسب للطرفين المقاتلين لاحقا عندما تضع الحرب اوزارها. وعليه فالقصور الروسي هذا بخسارة مثل هذا النظام المتقدم تكنولوجيا في مجال الحرب الاليكترونية يبدو غير (منطقي) الا اذا رافقه قصور عام بكامل المهمة العسكرية، والذي لم تتضح معالمه بعد، او قد تكون خسارة هذا النظام هي بداية القصور الروسي فعلياً، وبالتالي بداية نهاية الحرب هذه، وان كانت لتبدو طويلة الامد والاستنزاف - حسب المستجدات في المفاوضات الممتنعة.
اما انه خداع روسي، فهذا يعني ان هناك انظمة أحدث منه ستسخدم قريباً، وان هذا النظام قد أدى دوره وانكشفت اسراره بمجرد استخدامه لاول مرة، وهذا الاحتمال يسنده تاريخيا استخدام النظام الاسبق كوروسكا - 3 في احتلال جزيرة القرم عام ٢٠١٤، مما قد يدل ان كوروسكا - 4 قد أدى مهمته ولا خطورة من كشف اسراره، وان كوروسكا - 5 قادم في وقت لاحق، لكن هذا الخداع بحجم هذه الخسارة قد لا يبدو منطقيا كذلك، حتى لو كان الهدف منه دفع الطرف المقابل للمزيد من الزج بالاسلحة المضادة في المعركة، فيكون الطرف الروسي بذلك يستدرج امكانيات التحالف الاوروبي - الامريكي، وذلك لمعرفة اسرارها ضمن خطة خداعية محكمة في سباقات الحرب الاليكترونية، وبكل مجالاتها البرية والجوية والفضائية، وهذا وارد باحتمالية اكبر من الاحتمال الاول، اذ لم يعهد عن الروس قصورا قسريا بقدر ما عهد عنهم ذكاء وتفوقا علميا في كل المجالات ومنها علوم الفضاء، فهم اول من اطلقوا القمر الملاحي GLONASS ذا المدار المتوسط MEO، قبل الامريكي GPS، في نهايات الستينيات من القرن الماضي، ولم يكن سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات تكنولوجياً، بل كان لاسباب سياسية واستخباراتية، ومنه، فالخداع السوفياتي بهذا الخصوص وارد وباحتمالية اكبر، ويدعم هذه الفرضية، اختلاف طريقة الحرب الاوكرانية لغاية اللحظة عن سابقاتها من الحروب الروسية.
خلاصة القول؛ مهما يكن السبب، قصوريا ام خداعيا، فانني اؤكد - كمهندس اتصالات اليكترونية - ان وقوع مثل هذا النظام الحديث وبامكانياته الهائلة في ايدي الطرف الاخر، هو لا محالة خسارة كبيرة للطرف الاول الخاسر، حتى لو كان الهدف من تركه خداعيا، فالمجهود العلمي الموضوع فيه لعقد من الزمن لا يستهان به لهذه الدرجة. ندعو الله نهاية مرضية للطرفين لهذه الحرب، التي - ان طالت - قد تجر ويلات لبلادنا - ما لم تكن قد بدأت فعلا بارتفاع الاسعار حالياً، والنفط لاحقاً.
دكتور مهندس أحمد الحسبان - بودابست، هنغاريا.