إن إشكالية التجديد في المجال المعرفي التعليمي إشكالية حاكمة تحتاج إلى تأمل واجتهاد حتى يتسنى لنا تقييم ما يطرح على الساحة المعرفية، سعيا للتمييز بين ما هو إضافة معرفية حقيقية وما هو مجرد ترديد لفكر قديم من ناحية، أو تجديد من خارج السياق بحيث لا يعتد به في مجال التراكم المعرفي التعليمي من ناحية أخرى .
يجب التأكيد هنا على مسلمة أساسية، وهي أنه بدون التجديد يدخل الفكر والمعرفة نفق الاندثار والانسحاب من الساحة العلمية الحضارية. فلا جدال أن التجديد ضرورة معرفية لقيام الحضارات واستمرارها، فهو إذن قانون حاكم وسنة دائمة.
إن من يريد النهوض والتقدم، مثله كمثل من يريد تجديد البناء، لابد له من البدء بتنظيف الساحة من المخلفات ومن المعوقات قبل أن يضع أساسات البناء الجديد، والصعود على هذه الأساسات.
وفي السياسة الشرعية يعبرون عن هذا المنهاج بـ "التخلية قبل التحلية" أي البدء بإخلاء الساحة من معوقات ومخلفات النظام القديم قبل تحلية المكان بالبناء الجديد.
وفي التطور الحضاري والتطور الفكري والاجتماعي - وفق هذا المنهج - لابد من التخلص من "الجمود والتقليد" كمقدمة ضرورية للتطور والإبداع والتجديد، ذلك أن الجمود يعني السكون والتكلس الذي يكرس التخلف، كما أن التقليد - سواء أكان لتجارب الماضي والسلف أم لتجارب الآخرين - يعطي العقل المبدع إجازة دائما ، جاعلاً منه مكتباً لمجرد إستيراد، تجارب السلف، التي استنفدها التطور، أو تجارب الآخرين التي مثلت خصوصيات لمسيرة هؤلاء الآخرين.
إن الجمود والتقليد إنما يعطل ملكات التعقل والتجديد التي أنعم الله بها على الإنسان ، والتي ميزته - كخليفة الله سبحانه وتعالى - عن سائر المخلوقات ، وعندما يكون هذا الجمود والتقليد لتجارب الآخرين تجاوزها التطور ، يكون سببا في حدوث "فراغ فكري" يملؤه الغزو الفكري والاستلاب الحضاري وتتمد فيه المذاهب الغريبة التي يشكو منها أهل الجمود والتقليد ومن تتلمذ في مدارسهم !.
ولعل أبرز مظاهر الخلل أن لا يستطيع المرء الاعتراف بوجود مشكلة ، وكيف يمكنه معالجتها وهو لا يعترف بها؟
وتزداد مشاكل التفكير فداحة عندما نرى أن الجامعة فقدت السيطرة على ملكة التفكير ، فلا يستخدم فيها عقل في العلم، وهناك نقل منظم وجمع المعلومات دون أي نظام عقلي يتحكم فيها أو يحاول أن يشكك فيها .
أضحى العلم في الجامعة عبارة عن فقرات وعبارات تحفظ وتستظهر ، وأصبحت تلك المعلومات المقدمة فيها مسلمات تؤخذ على علتها . وتعطيل العقل في مناحي الحياة أمر غير مقبول ولا يورث إلا التقليد الأعمى والبئيس، فيصبح الإنسان آلية لتنفيذ المخططات المسلم بها .
لكن ربما لم يفهم الباحثون جيداً معنى استخدام المنهج واحترامه ، ويبدو هذا جليًّا في بعض الأبحاث التي لا تجد فيها إلا المنهج حاضراً في المقدمة مُعلَنًا عنه لكن بلا مضمون يوظف فيه المنهج ، وهذا قتل واضح لملكة التفكير .
إن أي تطور وتقدم ونهوض، لابد أن يحطم قيود الجمود وأغلال التقليد ، ليفجر في الأمة طاقات الإبداع النابع من فقه الواقع، والمسترشد بالمناهج والثوابت والأصول ، مع التفاعل مع "الآخرين" في ما هو مشترك إنساني عام .
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
استاذ اللسانيات الحديثة المقارنة / الأردن