الدكتور احمد الحسبان - لطالما أثار اهتمامي ذلك المتسول الخجول، يجلس بثيابه الرثة القديمة أمام مطعم للفلافل بجانب مخبز في مديتنا، هو لا يطلب الناس مالاً ولا الحافاً، لكن لغة التواصل بعينيه كافية لتعرف حاجته، يرمق زائر المطعم او المخبز بنظرتين ثالثتهما مكسورة للأرض، تبدو فيهما لمعان عز غادر صاحبه، أو عزيز قوم ذل، أو مغرم ناء بحمل دين، فتنجذب إليه قسراً، ولا يلحقك هو حتى بنظراته، على العكس من الذين يتبعونك لباب السيارة أو حتى يمدون أيديهم من النوافذ وكأنك لم تسمعهم يتسولون، بل هو مختلف تماماً، والاغرب انه يقبل اى شيء يعطاه، عشرة قروش، ساندويشة فلافل، رغيف من الخبز، ولا يشترط نقودا فقط، وكم كنت سعيدا وانا أراه يجمع النقود المعدنية، وينطلق مسرعا لصاحب المطعم ليشتري الساندويشة، هي فطوره ومثلها غداؤه وربما مثلها تكون عشاؤه كذلك، ثيابه كما هي عندما رأيته أول مرة قبل عدة سنوات، ربما لا يملك غيرها، معطف اخضر اللون أحسبه فلدة عسكرية قديمة، وبنطال كاكي شتوي هو كذلك من اللباس القديم للعسكر، وحذاؤه القديم اعتلت سواده غبرة الطريق حتى غيرت لونه و ملامحه، هو ذات اللباس صيفا وشتاء، لا يبدله، وكأنه يعزل جسده النحيل عن برد الشتاء كما يعزله عن حر الصيف.
ذاك المتسول الاديب الخجول، لا يعرف معظم المارة أنه متسول، بل يحسبونه عامل نظافة، يمسك بيده مكنسة قديمة، يجمع بها مطروحات الطريق من امام المخبز والمطعم في دلو ليس للبلدية، لم اكن احسبه الا مثلهم، عامل وطن، ولكنه ليس منهم، آثر فعل ذلك ليظن انه يعمل، عزة لنفسه، وكرامة لقلبه ألا يُكسر، عيناه فقط هي من تحكي قصته، وليس لسانه اذ لم اسمع منه كلمة واحدة رغم ترددي على ذاك المخبز منذ سنوات، ويصدق فيه قوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)، فلقد ترددت فعلا ان اعطيه نقودا لأول مرة لكيلا يردها الي غاضباً لسوء فهمي لحاله، ولكني أيقنت لاحقاً انه متسول خجول يبحث عن لقمة عيش تصلب عوده سحابة نهاره.
ذكرتني طريقته تلك بمتسولي الدول الغربية، يعزفون الموسيقى ويضعون امامهم قبعة، فيضع المارة فيها بعض النقود بعدما تطرب مسامعهم لتلك الموسيقى الرائعه في الشارع او في محطات مترو الانفاق، او كمن يبيع ورودا او بعض الجرائد والشوكلاتة واضعا قبعته امامه، ذاك التسول الحضاري، ليس فيه الحاح طلب، ولا مطاردات لعدة امتار، تنتهي بنهره مخالفا للاية الكريمة، (واما السائل فلا تنهر)، فهذا النوع الملح بطلبه ليس بسائل عادي محتاج، اقل ما يمكن القول عنه أنه نصاب محترف، يحفظ من الايات ما يريد، الا اية (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، يحفظها ويعمل عكسها تماما.
وأما السائل فلا تنهر، آية كريمة ذات معنى عميق فسرها ابن كثير بقوله بتصرف؛ (قد يكون السؤال مالاً أو علماً، وفي الحالين لا يُنهر طالبه، بل يُعطى حسب الاستطاعة، او يرد بمعروف). ولنا في المعلم قدوةٌ حسنة، اذا سُئل علماً أجاب ولو بعد حين، ولم ينهر طالبا ابدا، ولكن الذي يسأل بعينيه أو بحاله الذي يغني عن مقاله، هو الذي لا ينهر بل لا يرد كذلك، لكن متسولي جمع الاموال، المتشددين بطلبهم الحاحا، هؤلاء يجدر ألا يجاب طلبهم، مع رمقهم بنظرة صامتة، او رد بمعروف بلا نهر ولا فظاظة خلق، اتباعا للآية الكريمة، وحفظا للصيام في نهار رمضان.
خلاصة القول؛ التسول ظاهرة موجودة في كل المجتمعات، لكنها - أسلوباً - تختلف باختلاف الثقافات، وبالنتيجة؛ يجد المرء نفسه بين أمرين، إما ان يعطي القليل المستطاع عن طيب خاطر اذا كان المتسول أمامه فعلا يستحق ذلك، وإما ان يرده بالتجاهل لا بالنهر ولا بالشتم اذا تأكد انه محتالٌ جامعٌ للاموال، ولن تنتهي هذه الظاهرة الا اذا أحسن افراد ذلك المجتمع التعامل معها، فالحكومات في شتى بقاع الارض قد ضاقت ذرعا بهم لكثرتهم واتساع رقعة انتشارهم، خاصة في ظل انتشار الكذب والنفاق والفقر المدقع.
الدكتور احمد الحسبان. هنغاريا.