ماهر أبو طير - إذا أردت صناعة بلد جديد، بشكل جيد أو سيئ، فإن المدخل إلى ذلك هو الاقتصاد، ومع كثرة المال وتوظيفه وحصول الناس على حقوقهم، تزدهر الأخلاق، ومع غيابه تدب الأمراض والمشاكل والأزمات والفتن، والمعادلة معروفة في كل مكان، والفقر نتاج سرقة حقوق الناس أولا وأخيرا.
القصة هنا، ليست لكون المال وسيلة تغيير وحسب، إذ بدون القاعدة الأخلاقية المرتبطة بطريقة الإنفاق، أو الحصول على المال، أو مساعدة الآخرين، يتحول المال الى لعنة، وفي كل المجتمعات الحية، يرتبط المال بالقاعدة الاخلاقية التي تضع شروط التصرف فيه، وكيفية توظيفه اجتماعيا.
هنا في الأردن، مثل دول كثير، أدى التراجع الاقتصادي، وشيوع الفقر، وغياب العدالة، وتفشي الفساد على مستويات مختلفة، الى الاخلال بالقواعد الاخلاقية في البلد، والذي كان ممنوعا او حراما وفقا لرأي الناس، المستند في جذره الى ثقافة اي مجتمع، والى تصوره الديني الموروث، لم يعد ممنوعا لدى البعض، فالرشى اليوم، باتت حلا لمن لا تكفيهم دخولهم، والمظاهر هنا متعددة.
الاردن مثل اي مجتمع بشري، وحيثما حل الفقر والحرمان، يأتي التغيير سريعاً، ومحاولة تسكين آلام الفقراء عبر التبشير بحسن الآخرة مثلا، او بالتركيز على فضيلة الصبر، او الحض على الاعتماد على النفس، عناوين لم تعد تجدي نفعاً في المجتمع، الذي تتراجع أحواله يوما بعد يوم وبسرعة.
لو جلس اي مسؤول وحسب راتب الموظف، وزوجته الموظفة الحكومية، ايضا، وحسب نفقات ايجاره والغذاء والدواء واللباس والتعليم، وغير ذلك، لكان واضحا ان الكل غير قادر على الوفاء بما عليه من التزامات، وهذا يفسر النتائج الارتدادية، حيث ان الغالبية الكبرى مدينة للمصارف والمؤسسات ولغيرهم من افراد، وندر أن تجد أردنيا واحدا، بلا دين، خصوصا، حين يتواصل الغلاء، كما هو حال هذه الأيام، التي جنت فيها الأسواق.
نحن هنا نتحدث عن فئة لها دخل عبر الزوجين، فما بالنا بكثرة بلا أعمال، او عائلات لا يعمل فيها سوى الاب، او عائلات لديها تجارة صغيرة، فتخسر بسبب الكلف المتزايدة، وهذا يعني ان اعداد الفقراء تتزايد، وستكون احصاءات نهاية هذا العام، صعبة، على صعيد عدد الفقراء، والمدينين، وغيرهم، فيما الارتداد سيكون اجتماعيا، عبر شيوع ظواهر العنف والغضب والسرقة والجريمة والطلاق والعزوف عن الزواج، والتعثر المالي، والبطالة، وغير ذلك من ظواهر يتم التحذير منها.
حتى أولئك الذين يحصلون على مساعدات من الجهات المختصة، لا تكفيهم ابدا، فيما الطبقة الوسطى، تختفي يوما بعد يوم، بسبب كثرة التزاماتها، وسحبها الى قاع الوادي بسبب السياسات.
من المعيب حقا، ان نواصل السياسات الاطفائية فقط، وهي سياسات لا تحل الازمات، خصوصاً حين يوازيها تسهيلات غريبة على صعيد إقراض الناس، وإغراقهم، وكأنه مطلوب ان يصبح الكل اسيرا للديون، صغرت ام كبرت، فوق أن أعداد المتعثرين باتت مرعبة، ولا يمكن اصلا ملاحقة الكل.
الذي يراد قوله هنا، أن الأردن اليوم انقسم الى طبقات، طبقة ميسورة وغنية، لكن لديها مشاكلها التي تتناسب مع حجمها، وطبقة فقيرة غالبة وكبيرة، وبقايا طبقة وسطى تعيش من وظائف جيدة، او حتى بسبب حوالات المغتربين، وهؤلاء نراهم في الفنادق والنزهات والمقاهي.
يظن البعض ان المائة الف شخص الذين ينفقون بيسر، هم الأردن، بل ويقول لك البعض، هذا شعب غير فقير، وعليك ان تجد افراده عند شراء الموبايلات، او عند الانفاق في المطاعم والمقاهي والمولات، وهذا كلام غير صحيح، لان هذا مظهر خادع لعدد محدود قادر على الحركة والانفاق.
الغالبية لديها مشاكل مالية مزمنة، لا يمكن التغلب عليها، خصوصا، مع تغيرات السلوك الاجتماعي، والتباهي، والتفاخر، وانفاق البعض ولو بالدين على مشتريات غير اساسية.
الخلاصة تقول هنا، ان الاردن اليوم، ليس الاردن القديم، نحن وسط اردن جديد، كليا، وهو أردن لا يوقف أحد تحولاته السريعة جدا، التي تقودنا إلى مرحلة خطيرة، بعد أن فقدنا سماتنا الاساس.
إغماض العين عما يجري، أمر غير مسؤول، حتى لا نقول انه متعمد، خصوصا، حين تتواصل ذات السياسات التي تؤدي إلى الإفقار، وهدم كل بنية استقرار المجتمع، نحو إنتاجه الجديد، على شكل مجاميع بشرية محرومة، وهائمة، ومدينة، ولا تجد حلا في الأفق، في ظل غياب حقوقها.