حبا اللّهُ تعالى رسلَه وانبياءَه بمعجزات شتى، تماشت وتوافقت مع جنس ما اشتهر به أقوامهم، وتنوعت هذه المعجزات بغرابتها وتعقيدها واخترقت نواميس الطبيعة المعروفة، حتى ان اصعبها - سر الحياة والموت - اعطيت كمعجزة لسيدنا عيسى عليه السلام، فكان يحيي ويميت، ويشفي المرضى، الا ان هناك معجزة واحدة لم تعط لأي بشر، نبيٍ كان ام رسول، استأثر بها الله تعالى وحده، وربطها بتوحيده وألوهيته وربوبيته، وكانت من صفاته ومن اسماءه، وشرع صيام رمضان ليذكر بها الناس، فلا أحد يقوى على نكرانها او جحودها، حتى الملحدون في أوكارهم. وهي معجزة الاطعام. فما هي؟ وكيف ارتبطت بالتقوى المنشود من الصيام! نظرة اجتهاد في ماهية ربط الصيام بالانعام والاطعام من الناحية الوجودية العقائدية في سطور قليلات. والله اعلم.
ابتدأ القرآن الكريم بعد الفاتحة بسورة البقرة، تلتها آل عمران فالنساء فالمائدة ثم الأنعام، ولم تأتي سورة الرحمن مثلا الا بالترتيب الخامسة والخمسين، مع انها تحمل اسم الله جل وعلا، وهي أولى السورتين اللتين تحملان اسماء الله تعالى، حيث الثانية سورة الأعلى بالترتيب السابعة والثمانين، فلماذا بدأ الله القرآن بهذا الترتيب، لماذا جعلت البقرة - وهي من النعم - أول واطول سورة في القرآن، والمائدة التي نزلت على قوم عيسى خامسة سور القرآن، و الانعام واصنافها فصلت تفصيلا، بلحومها وشحومها ومنافعها للركوب والتنقل والبانها وأصوافها، وما سمعنا ان ايا منها انقرض كالديناصوات، فالخيل والبغال والحمير والنعاج والابل والماعز والبقر لا زالت تتكاثر من عهد نوح وستستمر بذلك ولن تنفق كاملة او تنقرض كغيرها من المنقرضات، وجاءت تلك السور في بدايات القرآن، يتلى للبشرية جمعاء لآخر مخلوق قد يخلق ويسمعه، ثم جاء الصيام ليمتنع الناس فيه عن الحلال من الانعام والطعام والشراب، وكذلك النساء، وكافة المفطرات، ليس كعبادة لله فقط، بل كتدريب نفسي قسري كذلك، لكي يتعلم الصائمون كيف يمتنعوا عن الحرام منها من باب أولى، وربط ذلك كله بالتقوى، وعدم الشرك به، فلو تفكرنا ملياً، لوجدنا ان خاصية اطعام البشر والكائنات الحية هي محصورة به تعالى، لا احد يطعمها غيره، فهو الذي خلق الارض في يومين، وقدر اقواتها للكائنات وسلاسلها الغذائية في يومين، ثم خلق السموات السبع كلها بما فيها من أجرام سماوية ومجرات واسعة ضخمة في يومين فقط ، اي بمثل زمن تقدير اقوات الارض، لما لها من دلالات عميقة، ان الرزاق هو الله فقط، خلق وقدر رزق كل بشري وكائن حي في الارض حتى تقوم الساعة، او ينتهي عمر ذلك الكائن الحي، ولم يربط رزق حي بآخر، أو بنبي او برسول حتى على سبيل المعجزة، ولا بحرب قد تحدث هنا او هناك، فلا مجال للكهنة بتوقع مجاعات الحروب ان يستأثروا بقولتهم هذه، فكم من حروب طاحنة حدثت بغابر الازمان، وارزاق الله لم تنفذ بعدها ولا قبلها، فليطمأن ذوو الاموال والملاذات الآمنه من الحروب على بطونهم طالما ان رب الاطعام حي لا يموت.
ثم ان الصيام شُرع ليحرم البشر منها حينا من الدهر، شهرا في الاسلام، ومدد غيره قبله، اذ ان الصيام كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا، فلهم ايضا صيامهم عن تلك النعم، فكل البشر صاموا عنها قبلنا، ليشعروا ان لا مطعم ولا ساقي غيره، لا احد يستطيع فعل ذلك الا الله، لذا قال خليل الله سيدنا ابراهيم عليه السلام؛ (والذي هو يطعمني ثم يسقين) واكد ذلك بالضمير المنفصل هو، فتبرأ منها وحصرها بالله، فحتى بمعجزة لا يمكن فعل ذلك، اذن فهي المعجزة الخالدة التي لم تعط لأحد، ولم ولن يستغني عنها أحد، الا بالموت او بقيام الساعة.
وبعد؛ فالحكمة من الصيام هي التقوى، لقوله تعالى في نهاية اية الصيام (لعلكم تتقون) ، اي تخافون الله الواحد الاحد الذي شريك له، فهو الذي يطعم ويسقي، ويمنع ذلك في نهار رمضان عبادة وتقربا وتذكرا، فكيف يعتقد البشر ان غيره طاعمهم وساقيهم، وهذا الشهر الفضيل يأتي كل عام ليؤكد حقيقة ذلك، ان الله لا شريك له بالاطعام، ولا بغيره حتما، لكن الاطعام هو شأنه المطلق وحده المتفرد به دون غيره، ليريح قلب المؤمن الذي يصوم له ويصلي له، ان رزقه مضمون بإذن الله، لا يتدخل فيه اي بشر مهما علت سلطته أو جبروته، أو حتى منزلته عنده، فسيدنا ابراهيم - خليله - اكد حقيقة الاطعام لله وحده كما تقدم، فيا عجباً لمن يخاف ارتفاع الاسعار، ويا حسرة على من يرفعها، يظن مخطئاً ان البشر يحتاجونه، فالذي يطعمهم صائمين بلا طعام ولا شراب في نهار رمضان، وفي بطون امهاتهم أجنة ضعافا، لقادر على اطعامهم طول الدهر، وهو اهون عليه من سابقتيه هاتين - في ظلمات الارحام وفي رمضاء الصيام .
خلاصة القول؛ اطمئن ايها المخلوق فلن تجوع ولن تعطش والله خالقك، وخالق قوتك ليوم وفاتك، ويقول لك في بدايات كتابه مع سور الانعام والاطعام، ان مريم بنت عمران في سورة آل عمران الثالثة كان يأتيها رزقها بالمحراب بغير حساب،(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، الاية ٣٧. وتحدثنا كبار سور القرآن في بداياته عن ضمان أنعامنا وموائدنا وأمننا الغذائي الالهي المنشأ والمنتهى - فلن نجوع ولن نعطش طالما هو خالقنا ورازقنا، فلماذا نشرك به غيره في ارزاقنا ومشاربنا! وإن نفعل - والعياذ بالله - فلا فائدة من صيامنا وتقوانا فيه وبعده، اللهم لا شريك لك، فاشهد.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان