بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - منتظراً نزول سعرها بلا جدوى، لا زلتُ أفكرُ ملياً لماذا حازت الطماطم (البندورة) على محبة وشغف الانسان الاردني، مطبوخةً كانت أم غيرَ مطبوخة، وهل آن الأوان ان نكون على يسارها - معارضين لشرائها، وعلى يمين جيوبنا - محافظين عليها، بعد ادقعتها البندورةُ وباقي المستلزمات الضرورية لطبخها فقراً وفقداً جراء حماقات جشع التجار، وخذلان العيون الحمراء.
من الغريب ذكره؛ أن الطماطمَ (البندورة) التي تؤكل كفاكهةٍ وتطبخ كخضروات، ويعدُ البعضُ أكثرَ من عشرة انواع من طبخاتها المختلفة، كانت تعتبرُ قبل عام ١٩٢٠ سامةً على الجنس البشري في بلاد الشام وتركيا ومصر، حيث لم تكن تزرع فيها أصلاً، وأولُ دخولٍ لها كان عن طريق بريطانيا اثناء احتلالها للعراق عام ١٩١٧، وذكر ان القنصل البريطاني (جون باركر) قد أتى بها الى حلب في نفس الفترة اوائل القرن التاسع عشر، ومما زاد انتشار زراعتها والاقبال على استهلاكها هي اميركا، حيث كانت آنذاك تزرع وتؤكل وتطبخ فيها وبكثرة، الامر الذي شجع العرب بعد انتهاء حكم الاتراك على الاقبال عليها بهذا النهم الشديد، اذن؛ فالعرب قبل مئة عام لم يكونوا يعرفونها أصلا، وكانوا يعتبروها سامة للجنس البشري العربي، فماذا لو رجع هذا الاعتقاد الآن لما كان عليه قبل مئة عام، وتحولنا عنها الى معارضين لها، فهل الاعتيادُ على عشقها متوراثٌ لهذه الدرجة لا يمكن جينياً الخلاص منه!! ، مع انه توارثٌ غربيٌ لا عربيُ الوجهِ واليدِ واللسان.
أعلمُ أنه من الصعب بمكان حرمان النفس من حقٍ مكتسبٍ استولت عليه بشهوتها، او توارثته بتقليدها الاعمى، فشابت على ما شبت عليه، ومن الصعب ايضا ايجاد البدائل عنه، أذكر اننا في ثمانينيات القرن الماضي عندما كنا صغارا، كانت وجبة (العصرية)، او ربما الغداء احيانا، ترتكز اساساً على (زر بندورة) أحمر قاني بطريقة (الفغم) المباشر، يصحبها رغيفٌ من خبز (الشراك او المشروح)، وكانت البندورة تصحبُ طفولتَنا العاثرة في أعمال البساتين، او سراحة الاغنام في (البطين)، فلا يمكن الاستغناءَ عن تلك الذكريات، ولا يمكن ان نخون عهود البندورة القديمة، ولكن؛ هناك وجهة نظرٍ أخرى في ذلك.
جاء ارتفاعُ سعرِ بيع (الغالية) على القلب (البندورة) متزامناً مع حلول شهر رمضان الفضيل، جشعاً من تجار الحروب، حروباً لا ناقةَ لنا فيها ولا بعير، ولا رأيَ لنا فيها ولا نفير، ولكن هذا ما حدث، فأصبح واقعاً لا مفرَ منه، إلاً ان رحمةَ اللّهِ بمشروعية عبادة الصيام بحلول الشهر الفضيل قد علمتنا - ما أمكن - أن نرى من شهوة أطايبِ الطعام ما هو ألذ من (البندورة) ولا نقربه تقرباً لله تعالى، بل أن نرى جمال الجنس اللطيف فيه أكثر مما في غيره كذلك - وهو ما هو ولا يقارن بحالٍ مع عشق البندورة - ونكبحُ جماحَ شهوته ايضا لنفس الغاية، فهل لنا من صيامٍ عن عشق البندورة ولو لثلاثة أيام فقط، علّ اسعارها تنخفض بالترك المؤقت، أو ان نعتبرها سامةً مؤذيةً كما رآها اجدادُنا قبل مئة عام. اعتقد ان المسألة تكمنُ في ضبط اعدادات ثقافتنا حول عشق (البندورة) الحمراء، وان لا نركن على اجراءات ضبط (العيون الحمراء) فقط.
خلاصةُ القولِ ومقصدُه؛ للشعوب سيكولوجيةٌ متغيرةٌ باستمرار، تستطيعُ البشريةُ ان تضبط من خلالها اعدادات عقول ابنائها لتكون (يسارية البندورة) و(يمينية الجيوب) ولو مؤقتاً، وتسيطرَ على شهواتها لتكون اختيارية الترك بدلاً من معاناة الفقد، وخاصةً انها - الشعوب مدار البحث - تمارسُ شعيرة التدريب على اختيارية الترك والتمنع في الشهر الفضيل عن ما هو أولى وألذ بعدم الترك، وهي خاصيةٌ للصائمين دون غيرهم من شعوب العالمين الاول والثاني - الذين احترفوا المقاطعة أكثر منهم. ولا اعتقد ان ذلك صعبا، أو ان هناك حلاً غيره أمام هذا الجشع المتزايد، فقد يكون هذا هو السبيل الوحيد لتخفيض سعر تلك النزوة المحببة، مئويةِ العشق والفؤاد. فلنكن على يسارها - لتعود.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان.