بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - بعد ان انتقلت عائلتنا من القرية للمدينة أوائل ثمانينيات القرن الفائت اختلفت علينا أمور كثيرة، فبعد ان كان في القرية شارع واحد شبه معبد، تتفرع منه شوارع زراعية ترابيه بين الحقول الواسعه، سكنا بحي بالمدينة زاد سواد شوراعها وضاقت، وبعد ان كانت البيوت مترامية المسافات بين الحقول والحواكير، صارت متقاربة افقيا وعموديا، وصرنا نصعد الادراج التي لم نكن نعرفها قبلا بالقرية، فالبكاد نرقى لسطح البيت مرة او مرتين بالعام بسلم خشبي آيل للسقوط، أو تسلقا من فوق النوافذ، وبعد ان كنا نأكل خبز الطابون والشراك من الذفال ساخنا، يتبعه عربود لذيذ، وكليهما من قمح حقولنا، صرنا نرتاد المخابز ونأكل خبز الكماج منها، وبعد ان كنا نأكل الدجاج البلدي احمر او اسود الريش كل شهر مرة او عندما يزورنا ضيف يترك بواقي لحم على عظم، صرنا نعاقر دجاج المزارع الابيض يوميا وبلا فائدة تذكر غير كثرة المقاقاة، وبعد ان كنا وكنا، صرنا وصرنا، وهكذا لكثير من الامور، لكن الاهم ليس هذا.
الاهم ان التربية النمطية الجميلة بدأت بذات الرحيل كذلك ، فقد كانت قريتنا تزخر بأجمل الحكايات، نلعب معا كأخوة وان اختلفنا، نتعارك بداية النهار، ونمسي نجري بين الحقول ضحكى فرحين، لا ضغائن ولا احقاد بيننا، حتى وان حدثت مشادة كلامية او مشاجرة يدوية بيننا، يعقلها كبارنا ويضرب كل واحد منهم ابنه، محقا كان ام مخطئا، لتقل بذلك الخلافات وتؤول مع الزمن للصفر الاجتماعي، وهذا النمط التربوي والتعايش القروي موجود عند الجميع، ولكن الامور اختلفت بالمدينة، فصار هناك هيئات تحقيق ودفاع ومحامين ولأبسط المشاكل بين الناس، تتخللها بعض افادات الشهود الذين لم يحضروا اصلا للمشكلة زمنا ولا مكانا، وكل هذا قد يبدو طبيعيا بعد عدة مشكلات اعتدنا على الخروج خاسرين منها، فالوالد القروي يعاقب كما اعتاد عليه بالقرية، والطرف المقابل يعاقب كذلك، وامسينا بين فكي كماشة، نختصر المشاكل خوفا من عضاتها المزدوجة المؤلمة. ولا زال القادم اسوأ.
ففي كل مرة تحدث معاركة بشارع الحارة او بالمدرسة، تأتي أم الولد المشاكس، وتعتلي منصات الدفاع عن ذلك الشرير الصغير، ليبدو بعد عدة جمل الامومة الحانقة، جملا متتابعة سريعة، ملاكا حط من السماء، أو بريئا كحمل وديع، وهو في الحقيقة محراك الشر ومحوره الذي حوله تدور كل ضالعة او شاكلة، فينجو من العقاب، ويناله بجدارة الطرف الاخر المخدوع امثالنا، اذ لا مدافع عنا ولا بواكي لنا، وان وجد صار العقاب اثنين كالعادة، ويعود أمثالنا لبيوتهم مقهوري الخاطر، يجرون الخيبات واذيالها، ويفوز ذاك الشقي بالمحفل، وهكذا تتكرر العثرات والخيبات، ولا يعرف الكذب لقلوبنا طريقا، بل يسقينا الزمن بالعز كأس الحنظل.
مقصد القول؛ ارجع للوراء اربعين عاما واقول لتلك السيدة ولية امر الشيطان الشقي؛ اذا كان ولدك (المقرود) ذاك ملاكا حط من علِ، فمن هو شيطان الحارة والمدرسة؟ وانت من كدت تعلميننا الكذب لننجو من العقاب مثله ومن اللوم مثلك، لولا ان تداركتنا هداية الله وعقاب القرويين.
خلاصة القول؛ حكومتنا ذات العيون الحمرا الجمرا، اذا كان تجار الجشع ملائكي الطبع بنظركم، فمن هم شياطين رفع الأسعار اذن؟ يكفي دلالا لهم او تواطئا معهم، فسواد الطرق المعبدة يضيق، واروقة البنايات المغلقة ذات رائحة تفوح.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان