أصدق ما يصلنا من رسائل يكتبه أطفالنا، فالبراءة لا تكذب، ولا تستطيع أن تزين الواقع، ربما تكون الناطق باسم ضمائرنا، أو أنها تهزها وتحركها على الأقل، وبمقدار ما تسعفنا إنسانيتنا بالتقاط هذه الرسائل، وفهمها والرد عليها، نمنح ذواتنا ما تستحقه من سعادة واطمئنان، والأهم، من إحساس أننا بشر، لا معنى لحياتنا الا بمدى ما نمتلكه من خير، نعطيه الآخرين ونسعدهم به.
قصة الطفلة التي كتبت موضوعا للإنشاء، عنوانه “أمنيتي”، وجدت بوسائل الإعلام من يحملها للرأي العام، فتفاعل معها، وانتهت بمكالمة من ولي العهد، الأمير الحسين، بأن الأمور ستكون بخير.
الواقع أن القصة بدأت ولم تنته، فكم من طفل وطفلة كتبوا أمنياتهم، أو أضمروها داخلهم، أو عجزوا عن البوح بها، ولم نسمع عنهم، وبالتالي فإن ما كتبته الطفلة، وما أشهرته من أمنيات بسيطة، يكاد يختزل أكثر من مليون رسالة لأطفال لا نعرفهم، يتامى أو معوزين، مشردين بالشوارع أو غاب عنهم آباؤهم بالسجن، أو تعيلهم أمهات غدرت بهن الحياة.
الرسالة أحزنتنا، وربما أثارت فضولنا لمعرفة الطفلة ومساعدتها، لكن الأهم أنها كشفتنا (هل أقول فضحتنا)، الدولة بمؤسساتها والمجتمع أيضا، ليس فقط لأننا نجلس على مقاعد المتفرجين بانتظار مثل هذه الصرخات الجريئة أحيانا، والخجولة أحيانا أخرى، وإنما لأنها تشعرنا بالعجز والتقصير، وأكاد أقول الاخلال بشرف الإنسانية والوطنية، الذي يقتضي أن نتحرك لإغاثة الملهوف، ورفع الظلم عن المظلوم، أقول نتحرك، لأننا لا نتحرك إلا إذا بلغت هذه الصرخات مداها وأحرجتنا، على الرغم اننا نعرفها، كما نعرف “المأساة” التي يعاني منها الأردنيون هذه الأيام.
السؤال الأهم الذي طرحته قصة الطفلة، ولم يحظ حتى الآن باهتمامنا، هو واقع الطفولة في بلادنا، صحيح أن هذا الواقع جزء من واقع الأردنيين، وما تعرضوا له من تراجعات على صعيد الخدمات الصحية والتعليمية، وما يعانونه من فقر وتآكل بالدخول، لكن الصحيح أن الأطفال لا يحتملون هكذا ظروف صعبة، ولا يجوز، أخلاقيا ووطنيا ودينيا، أن نقهرهم بالحرمان من مستلزمات الحياة الكريمة، فرعايتهم يجب أن تكون أولوية أولوياتنا، وأي حكومة تقصر بهذا المجال، فهي فاشلة بامتياز.
في ملف الطفولة تبدو الأرقام صادمة ومخجلة، وربما يكون الواقع أسوأ، نسبة الأطفال ممن هم دون 18 عاما بلغت (2020) نحو 40.0 % من اجمالي عدد السكان، من بينهم أكثر من 100 ألف طفل يعملون بشكل غير قانوني (منهم 10 آلاف طفلة)، نصفهم يمتهنون أعمالا تصنف وفق قانون العمل بأنها خطرة، مع أن القانون يحظر عمالة الأطفال قبل سن الـ 16 عاما، ويمنع العمل لمن هم بين الـ16-18 بالمهن الخطرة.
بلغ عدد الأطفال خارج المدارس (6-15 عاما) أكثر من 112 ألفا، يشكلون 6.2 % من مجمل الأطفال بهذه الفئة (دراسة أصدرتها وزارة التربية واليونيسيف 2020)، ويعاني طفل واحد من بين كل ثلاثة أطفال (أعمارهم من 6-59 شهرا) من فقر الدم، نتيجة سوء التغذية والفقر، ويشكل هؤلاء 32 % من مجمل الأطفال في هذه الفئة.
عالميا، صنف مؤشر حقوق الطفل الأردن لعام 2021 بالمرتبة (73) من أصل (182) دولة حول العالم، وهي مرتبة متواضعة مقارنة عما كنا عليه بالسنوات الماضية، وخلال جائحة كورونا فإن نحو 23 % من الأطفال الذين أصيبوا بالوباء لم يحصوا على الرعاية الصحية المناسبة، فيما لم يتمكن أطفال ٢٥ % من العائلات من الوصول لمنصات التعليم عبر الانترنت.
لدينا، نحو 11 مركزا للأحداث تجاوز عدد الموقوفين والمحكومين فيها 3000 طفل، حال هذه المراكز ليس أفضل من حال السجون، وفي دراسة نفسية على هؤلاء تبين أن أكثر من 23 % منهم فكروا بالانتحار، و87 ٪ مصابون بالاكتئاب، و64 % تعرضوا لصدمات نفسية عنيفة.
لدينا، أيضا، نحو 9 آلاف طفل يعانون من مرض التوحد، ولا يقدم لهم التعليم والعناية الصحية كما يجب، ويجلس على مقاعد الدراسة الحكومية أكثر من 23 ألف طفل يعاني من إعاقة بدنية، علما أن عدد المعاقين بالأردن يتجاوز المليون و200 ألف شخص، منهم 400 ألف على مقاعد الدراسة.
لا أجد لدي أي تعليق على هذه الصورة للطفولة في بلدنا، أترك للقارئ الكريم أن يقرأ رسالة” أمنيتي”، في هذا السياق، كما أترك للمسؤولين الإجابة على سؤال مليون طفل أردني، وربما أكثر، يعانون مما هو أسوأ مما كتبته الطفلة برسالتها.
يا الله، هذه الطفلة عثروا عليها متلبسة بـ”أمنية”، كيف؟ الا أدري، لكن كم غيرها من أطفالنا لم نسمع أنينهم، ولم نرد عليهم، ما أكثر أمنيات أطفالنا الصغيرة، وما أقل حيلتنا على تحقيقها.