ابتهجنا بأداء الحكومة في عامها الأول حين أعادت الحياة العامة إلى طبيعتها، وتفوقت على «حزيرة كورونا»، أعني كورونا البائدة، التي اختفت من العالم كله، منذ اليوم الأول للحرب الدائرة في شرق اوروبا، لكنني ما زلت أندهش مما آلت إليه أحوال مؤسسات وأداء مسؤوليها، وكأنهم اكتشفوا اكتشافا بأن «جل» إن لم تكن كل أوقاتهم في مكاتبهم مكرسة للنواب، فبعضهم وبلا سابق ترتيب يداهمهم نواب وأعيان في مكاتبهم، ويستنزفون كل أوقاتهم، بينما المراجعون يتكدسون في قاعات الانتظار، حتى حين يحاول المسؤول «الخلاص» من ضيوفهم النواب والأعيان، ويبدأون باستقبال المراجعين، يتسمر بعض النواب في أماكنهم ولا يغادرون مكتب المسؤول، بل ويطرحون آراءهم في قضايا الناس.
بحكم مهنتي وغيرها، أضطر أن أزور مسؤولا ما في مكتبه، وخلال هذا العام، راجعت أكثر من دزينة من المسؤولين، وبناء على موعد محدد سلفا، لكنني أجد نوابا وأعيانا عند هؤلاء المسؤولين في كل مرة !، وأحيانا أدخل معهم في حوارات بل وأتهمهم في وجوههم بأنهم يعتدون على وقت المسؤولين وعلى الأوقات المخصصة لصالح المواطنين لمتابعة أعمالهم وإجراءاتها الكثيرة.
أمس الأول مثلا؛ راجعت مسؤولا لمؤسسة لن أذكر اسمها، وكنت ربما ثاني مراجع وصل الى مكتب ذلك المسؤول «يعني الساعة العاشرة صباحا مع بداية الدوام الرمضاني»، ولأنني لا أرغب بفتح مواضيع مهنية أو خاصة أمام الآخرين، قررت أن أنتظر خروج نواب من مكتب ذلك المسؤول، كانوا قد وصلوا الى ذلك المكتب «قبل العاشرة صباحا!»، ثم جاء أحد الأعيان، وتخطى رقاب المراجعين ودخل الى مكتب المسؤول مع مرافقيه، وكانت «همة مدراء المكاتب والحاشية قد انتعشت في ذلك المكتب»، وكأن المسؤول يعقد مؤتمر قمة، فلم يعجبني الوضع وانتقدت «العوج» المتمثل بالاعتداء على وقت المسؤول والمواطنين المراجعين من قبل هؤلاء الضيوف، فقررت الخروج من المكتب، وتحركت فعلا فإذا بأحد الموظفين يلحق بي ويقول (المسؤول بده اياك)، ولأنني أحترم ذلك المسؤول، رجعت، فإذا به يعتذر عن انشغاله، فساعدته بالتبرير الذي لم يشأ ان يقوله صراحة، فقلت له على مسامع نائب وعين ما زالا في مكتبه، قلت: معذور يا سيدي، وان شاء الله نرتاح من مجلس النواب والأعيان لنتفرغ لأعمالنا وقضايا الدولة والناس وقضايانا، فاعتذر العين المحترم بلطف شديد، واستأذن بالخروج، بينما قالت «النائب» التي ما زالت تجلس : وكيف بدكو توخذوا حقوقكو إذا راحوا النواب!.. واستأذنني مسؤول تلك المؤسسة لنتحدث في قاعة الاجتماعات، فبادرته بالاعتذار والتعاطف معه، وقلت الله يعينك على ضيوف الفجأة، فأجاب بأنه قد سبق هؤلاء ضيوف آخرون «يعني نواب كمان»!!..
لا يمكن أن يقبل مواطن واحد مثل هذا الأداء، فدور النائب رقابي تشريعي، وليس منسق وظائف ومساعدات وحل قضايا وجرائم من اختصاص المحاكم.. حتى لو كان يتابع مظلومية لمواطن ما، فعليه أن يفهم أولا بأنها مظلومية وأن لهذا المواطن حقوقا، وليس تقديمه على أصحاب حقوق، او مجاملتهم أو مراعاتهم للوضع العام، فتقديم الخدمات على حساب أصحاب الحقوق هو فساد صريح لا يتفق لا مع أعراف ولا قوانين ولا أخلاق ولا دستور، وهو العصا الحقيقية التي نضعها بأيدينا أو نصمت عنها، وتتسبب في وقف عجلة الإصلاح وتفقدنا الثقة بالعملية الديمقراطية وتقتل أملنا وحلمنا في سيادة القانون وتساوي الناس أما الحقوق والواجبات والفرص.
هذا الموضوع ليس بالجديد؛ وأعتقد بأنني أكثر صحفي وكاتب تناوله في زاويته وعلى امتداد أكثر من عقدين من الزمان، لكنه ما زال يحدث، بل إنه تزايد بشكل ملحوظ.
لا أعمم الكلام السابق على كل أعضاء مجلس الأمة، فثمة رجال دولة وسياسة لا يمكن لأحد انتقادهم او إتهامهم بمثل هذا الأداء المرفوض، وهم مثال واضح على مدى الالتزام بتوجيهات جلالة الملك في رفضه وحربه على الواسطة والمحسوبية، لكن عن الباقين نتساءل:
ما الذي يفعلونه هؤلاء في مكاتب المسؤولين؟ وهل هذا من حقهم؟!.