بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - في كل الزيارات التي قمنا بها سابقاً الى الشركات العظمى المصنعة للأنظمة الاليكترونية في مجال هندسة الاتصالات كنا نُمنع من الدخول للطابق الثالث، الا في مرتين فقط وبشركتين مختلفتين، احداهما امريكية والاخرى هنغارية، حيث سُمح لنا بالدخول ولفترة قصيرة ولأسباب مبررة، ورأينا ما في ذلك الطابق العجيب، كنا نعلم مسبقاً انه الطابق المخصص للمصممين من المهندسين، ولكنا لم نكن نعلم تفاصيل وماهية العمل فيه، وبعد معرفتنا لجانب من ذلك، لم نزدد الا خذلانا، وزاد في القلب فوق الحسرة نيرانا.
الطابق الثالث بتلك الشركات العملاقة يحوي مهندسين في ريعان الشباب، غضة بخيرها عقولهم، كل واحد منهم يقبع من خلف نظارتيه وراء جهاز كمبيوتر، تشع من شاشته رسومات لدوائر اليكترونية معقدة، وامامه مخططات هندسية مرسومة على ورق مطوي لثلاث او اربع طيات، بالكاد يرفع احدهم نظره عن عمله وتصاميمه، يصممون ويعدّلون ويطورون ويخترعون ويجربون ويحسبون تلك الدوائر الاليكترونية ومكوناتها، يدخلون اليها اشارات افتراضية ويخرجون منها أخرى، لتدخل الى دوائر ثالثة ورابعة كمدخلات جديدة، او تتشارك مع غيرها لينتج اشارات مركبة. امام كل واحد منهم كوبا من شاي أو قهوة وساندويشة لا ادري اهي فطوره ام غداءه، ويمضون سحابة نهارهم حتى المساء على هذه الحالة، لا يخرجون الا لساعة غداء او لقضاء حاجة، ويعكفون على ذلك شهورا طويله، ولا يختلطون بغيرهم من فنيي المصنع بالطوابق السفلية، ويسود اجوائهم هدوء تام لدرجة (الطرم) او لدرجة سماع رنة ابرة اذا سقطت بينهم، لله درهم من قوم، اذهلني استغلالهم للوقت والجهد والتفكير، والتفرغ التام للبحث والتطوير.
في بلادنا، كل مهندس يولد من جامعته على الفطرة مهندساً مصمما، فمنظومته اما ان تحوله الى مهندس صيانه او الى مهندس تدريب، ومع الزمن يعتنق هندسته الجديدة هذه، وينسى فطرته التي تخرج عليها كمهندس تصميم، الا في بلاد الغرب من العالمين الاول والثاني، يكمل مسيرته المهنية من حيث بدأ. وهنا يكمن الخلل.
بكل صراحة لا يوجد دعمٌ واضح وكافٍ للبحث العلمي والتطوير لدينا، ولا تشجيع على ذلك لا ماديا ولا تكنولوجيا، وغالبا ما ينقطع دور الجامعات - وهي المعنية بالبحث العلمي - عن دور الشركات بمجرد تخرج المهندس من الاولى والتحاقه بالثانية، فيبقى العلم محبوسا قيد الكتب والامتحانات، ويحرم المجتمع من فك قيوده في الابداع والتطوير والتصنيع من خلال تشاركية الطرفين بذلك، فغالبية شركاتنا ومصانعنا تقتصر مهامها على تجميع القطع المستوردة الجاهزه بخطوط انتاج ليس فيها افكار ذاتية ولا تصنيع محلي ولا ابداع الا بالنسخ واللصق وتسويق المستورد، ولا سيما في البلاد العربية ودول العالم الثالث. وبهذا ينتهي دور المهندس المصمم، ويلتغي وجود الطابق الثالث فيها، الذي هو اصل نواة التشاركية المتبادلة بين الجامعات والمصانع في بلاد العلم والحداثة.
خلاصة القول ومقصده؛ الطاقة الوطنية المبذولة في انتاج وتخريج مهندسي تصميم من الجامعات وبالمئات كل عام، وتركهم بلا عمل، او تحويل اعمالهم لتشبه اعمال فنيي صيانة او مدرسي دورات هنا وهناك، هي طاقة مهدورة ضائعه، ماليا واكاديميا وتكنولوجيا. لا يستفاد منها في مكانها الصحيح ولا بتوقيتها الصحيح، فيصدق القول ان (دول العالم الثالث بلا طابق ثالث) وللاسف. ولا أزيد الا ان اقول: علمونا بالجامعات - كمهندسين - كيف نفكر لنصمم حلا هندسيا مناسبا وبأقل التكاليف لغاية ما ذات مطلب للبشرية، وليس فقط كيف نحل مشكلة هندسية لجهاز عامل او نقتصر على تدريبٍ لصيانته. وكما يقال :(ان كنت تعرف فكرة ما فاعملها، وان كنت لا تعرفها فدرّسها)، لكننا نعرفها لندرسها فقط، ولا تحاول الادارات العليا تهيئة ظروف مناسبة لعملها واخراجها لحيز الوجود، فتبقى الادارات قابعة بالطابق الثاني، والفنيين - ومن التحق بهم من مهندسي صيانة - في الطابق الاول، ولا وجود لطابق - العقل المصمم - الطابق الثالث.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان