الأستاذ الدكتور: رشيد عبّاس - منذُ أن بدأت أدرك الواقع من حولي وإلى يومنا هذا وأنا اسمع في وسائل الإعلام عبارات تهويل ممنهجة يشيب لها الولدان, وتضع لها كل ذات حمل حملها, وأكثر من ذلك أصبح كثير من الناس في ضوء عبارات التهويل هذه يقلّبُ كفّيه على ما سيكون, والسؤال هنا من يقف وراء مثل هذه العبارات التهويلية..؟ وقبل أن أدخل في حيثيات سياسة التهويل, ومن يقف وراءها؟ هناك نموذجين ماثلين على ذلك كأمثلة لا للحصر.
النموذج الاول: عبارة (الأمة تمر بمنعطف خطير جداً)..أنا لا افهم طبيعة وتصميم هذا المنعطف الذي بتنا فيه أكثر من ثلاثة عقود ولم نخرج منه, ثم هل نحن في بداية المنعطف؟ أم في وسطه؟ أم في نهايته؟ انا اعرف أن في بداية المنعطفات الحادة توضع إشارة تحذير مكتوب عليها تمهل أمامك منعطف حاد, وتعالج بدقائق معدودة وذلك بتخفيف السرعة والضغط قليلاً على الفرامل, وكفى الله المؤمنين القتال, وهنا أتساءل كيف سنُقنع جيل التيك توك (TikTok) اليوم اننا ما زلنا في حالة انعطاف مستمر إلى جهة اليمين أو إلى جهة اليسار إلى يومنا هذا؟ اعتقد أن كل ذلك لا يخرج عن كونه سياسة تهويل..وأن شكل الحياة بالتأكيد متجددة, وأن البشر في حالة صراع مستمر على هذه البصيرة, ويكون البقاء فيها دائماً للأقوى ليس إلا.
النموذج الثاني: عبارة (نحن أمام نظام عالمي جديد).., كلمة (نظام) هنا كلمة عامة غالباً ما ترتكز على مفاصل أساسية في حياة الأمة كالحياة الدينية والحياة الاجتماعية والحياة الاقتصادية, فمنذً عقد من الزمان والبعض يردد عبارة (نحن أمام نظام عالمي جديد).., لا اعرف بالضبط سبب تأخر قدوم هذا النظام, هل أن المسافة طويلة أمام هذا النظام, أم أن هذا النظام بطيء الحركة لدرجة أنه يعمل على الفحم الحجري, أعتقد جازما أن ذلك لا يخرج عن كونه سياسة تهويل مقصودة فقط, وأن الحياة الدينية تتجدد مع تطور العلم, فقد كنا نتوضأ مثلا من النهر الجاري, واليوم نتوضأ من حنفية تعمل بمجرد أن تركز نظرك اليها لمدة بضع ثواني..أعتقد أن هذا تطوّر وليس نظام عالمي جديد كما يدّعي البعض.
أما في جانب الحياة الاجتماعية فقد كان الشاب يتزوج ويسكن في بيت ابيه مدة من الزمن, أما اليوم فيخرج بعد الزواج مباشرة ليسكن بعيداً عن بيت ابيه..هذا تطوّر في الحياة الاجتماعية وليس نظام عالمي جديد كما يدّعي البعض, وفي جانب الحياة الاقتصادية فقد كان الزوج هو المعني فقط في الإنفاق على زوجته وأولاده, أما اليوم ربما تجد الزوجة هي من تنفق على زوجها وأولادها..وهذا من وجهة نظري تطوّر في الحياة الاقتصادية, وليس في إطار نظام عالمي جديد كما يدّعي البعض.
اعتقد أننا لم نمر بـ(منعطفات خطيرة) سابقاً, ولو أن الامة مرّت بالفعل بمنعطفات خطيرة عبر العقود الماضية لوجدنا أن لدى الأمة اليوم خطط ومشاريع وبرامج دينية واجتماعية واقتصادية قوية ومتكاملة نضاهي ونباري بها الأمم, ولخرجت الأمة أقوى وأصلب مما هي عليه الآن, لكن الذي حصل هو أن الأمة مرّت بتجارب عديدة لم تستفيد منها ولم تعيد بناء كينونتها من جديد, وما نحن عليه اليوم إلا انعكاس وتعبير عن حياتنا الحقيقية الماضية, وليس في إطار نظام عالمي جديد كما يدّعي البعض.
وأعتقد ايضاً أنه لم يصلنا (النظام الجديد) بعد, فالنظام العالمي الجديد يقتضي مثلاً أن نعيد ترتيب سنن الوضوء كأن نمسح الأذنين ظاهراً وباطناً قبل المضمضة وهذا عملياً مستحيل ولا يجوز دينياً اصلاً, أو أن نجعل جينياً من يحدد جنس المولود هو المرأة بدلا من الرجل, وبالتالي أن يصبح المولود يحمل أسم امه بدلا من أن يحمل أبيه, وهذا وراثياً مستحيل طبعاً, أو أن نجعل في جانب الميراث أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وهذا عملياً مستحيل ويتعارض مع ما جاء في كتاب الله, فالحقوق والواجبات المترتبة على الذكر أكثر من ما هو على الانثى.
إن تداخل المفاهيم, وبالذات المفاهيم المتعلقة بالتطوّر الحتمي للحياة, والمفاهيم المتعلقة بحالات صراع البشر المستمرة مع مفاهيم اخرى غير واقعية الغرض منها تهويل المسائل, وايجاد أجواء ومناخات رعب للبشرية..كل ذلك بات اليوم مكشوف لدى الجميع, ويبقى السؤال العالق: من هي الجهة أو الجهات التي تقف وراء سياسات التهويل هذه؟
التهويل نمط تفكير سلبي عند البعض، سواء كان مقصودا أو غير مقصود، فإن الاثر السلبي يقع على الجميع, وهو آفة من آفات عدم استقرار المجتمعات حيث الإرباك والارتباك, وإعطاء الأمور أكبر من حجمها والزيادة عليها, والتهويل يكون في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية, وهذا يعني إبعاد الأمر عن حقيقته والتعامل مع أشياء مختلف عما هو على أرض الواقع، حيث يؤثر في الآخرين وقناعاتهم باتجاه معين، وصرفهم عن الحقائق.
ثم أن, التهويل يوجه الرأي العام ويؤدي إلى تغييب الحقائق ونشر اليأس والإحباط في النفوس وعدم القدرة على العمل والإنجاز, ليصل الى حد التخويف ونشر الرعب في النفوس، كما أن التهويل لا يساهم في حل المشكلات ويعيق الاصلاح المنشود ويضعف الكفاءة في التعامل مع الأزمات, وذلك من خلال تكرار الموضوع لفترة طويلة وبصور متعددة، واختيار عناوين خادعة تترك أثرا سلبياً في النفوس, وان التهويل والمبالغة مرض، مع ان التعامل مع القضايا والمشكلات يجب أن يتم بموضوعية وواقعية واتزان واعتدال، وعدم إعطاء الأمور أكبر من حجمها, فالتهويل والمبالغة خطيران على المجتمعات وخصوصا في الأزمات.
وللإجابة عن السؤال العالق: من هي الجهة أو الجهات التي تقف وراء سياسات التهويل هذه؟
أقول: هناك ساسة من أصحاب الفكر الإلحادي من بعض دول العالم التقت أفكارهم وبرامجهم التدميرية تلك التي ترمي إلى تخويف المجتمعات ونشر ثقافة الرعب لدى هذه المجتمعات البسيطة لعرقلة خطط التنمية والإصلاح، هؤلاء يرسلوا رسائل تهويل مرعبة, ليستقبلها للأسف الشديد ممثلين لهم في جميع أنحاء العالم لإعادة وتكرار بث مثل هذه الرسائل وتعميقها في نفوس الناس, وذلك من اجل تحقيق أهداف كبرى تدميرية في بعض المجتمعات, ومن يتابع رسائل التهويل هذه..وبالذات من أين بدأت وأين انتهت وكيف مُرّرت, يعرف تماماً أن هناك جنود مُجنّدة لمثل هذه الرسائل تلك التي تطلُّ علينا بين الفينة والاخرى.
نريد في الأردن سياسة (تهوين) وليس سياسة (تهويل) للواقع الذي نعيش, وذلك لتخفيف الواقع وتبسيطه وتسهيله على الناس, وليس لتضخيم الواقع وتخويف وزعزعة أمن المواطن وتهديد استقراره.
وبعد..
حُرمة ترويـع الآمنيـن عظيمة عند الله وعند رسوله.