بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - في هذا الزمن، تمضحل الثقة بالآخرين، حيث كثر الغدر والكذب بشكل لافت، وتعالت أصوات الناس بكل وسائل التواصل الاليكترونية، وفي كتاباتهم بمختلف الروايات والقصائد، عن انعدام الثقة بغيرهم لأسباب كثيرة، منها المادي ومنها النفسي كالغيرة والحسد وحب الذات عند الناس، وخيانتهم عهود المودة والمحبة عند أقرب منعطف لمصلحة شخصية او حب لشهوات الذات، ولكن هذه الخسارات لا يعتد بها أمام الأعظم منها خسارة، وهي فقدان ثقة المرء بنفسه، والتي بخسرانها تقف أمور كثيرة بحياته، ولكنها تستمر كجسد حزين بلا روح سعيدة، وتفقد بريقها والجمال، فكيف تثق بنفسك؟
تعددت دراسات علم النفس في هذا المجال، كما أبدع العلماء المختصون في اعطاء نصائح لتعزيز الثقة بالنفس، أجانب وعرب، مسلمون وغيرهم، فالكل يدلو بدلوه؛ الكاتبة فيكتوريا ايفانوفا، تتحدث عن بناء علاقة صحية مع النفس باسكات الصوتي الداخلي الناقد للذات، والكاتب توم كاسو يتحدث عن عشرة طرق لبناء الثقة بالنفس من جديد بعد فقدانها، ومنها كيف تثق بماضيك الناجح وتتكلم مع نفسك باستمرار وتنبذ الخوف من التقدم وما الى ذلك، والكاتب كريغ شايلدز يتحدث في عشر مساعدات سريعة لتضخيم التقدير الذاتي، منها حب الاخرين ومساعدتهم، فتجد نفسك في مساعدة غيرك. ولم أجد في كلامهم ومقالاتهم وملخصات كتبهم اي خطأ، بل وجدت كل ما هو منطقي معقول، ولكن ظروفهم في الغرب الاورربي والامريكي تختلف عن ظروفنا في الشرق الأوسط، ونحتاج الى ما هو أقرب للتطبيق وأسهل للاقتناع واسرع للوصول مما قدموه رغم حداثة دراساتهم وتطور أساليبها.
اما عن علماء العرب القدماء والمعاصرين، فحدث ولا حرج، فهناك مئات المقولات عن بناء الثقة بالنفس، ولا تكاد كتبهم ومؤلفاتهم المختلفة تخلو منها، بل وتذكرها بكل وضوح وتفصيل ممل، فمنهم من وجدها في بطولاته الشعرية ومعلقاته الطويلة، ومنهم من مارسها في ميادين القتال والقيادة والسيادة، ومنهم من تغنى بها مبارازاته الشعرية والخطب الرنانه، من خلال سلسلة من النجاحات المتعاقبة، ولا ندري كيف بناها في ذاته، الا ان هؤلاء ايضا ليس فقط تختلف ظروفهم و مجالات بناء الثقة لديهم، بل انهم كذلك يمارسونها بمجال معين واستطاعوا تحقيقها كل ضمن تخصصه الدقيق الذي افنى حياته فيه، وما اريد ان اصل اليه هو بنائها في ذات اي شخص عادي مثلنا، يعيش سحابة يومه يعمل من اجل قوت يومه، لا هو واثق بمال ولا علم ولا مجال مهني معين قد يجد في ثلاثتها من يفوقه فيها علوا وعددا. والفرق بين العرب والاجانب بهذه الحيثية، فالاجنبي يتحدث للعامة لكن ظروفهم المعيشية افضل بكثير من غيرهم في عصرنا الحالي، مما يسهل تطبيق نظرياته لشعوبه واقاليمه، والعربي يتحدث بخصوصية مجالاته التي قد لا تنطبق على غيره، فليس من حاليا ابطال معارك طاحنة، وليس كلنا شعراء غزل ورثاء، ولا ادباء كلمة ونثر، وقليل منا مختصون مثلهم بمجال تظهر فيه ثقتهم العالية، فالبكاد احدنا يستطيع فهم نفسه عندما ينظر حوله فيحبط من نقص في الاساسيات وفقدان الكماليات و خلو للذات و انشغال بكدح الدنيا للمعيشة الضنكة، ومحاولات الاكتفاء البائسة الفاشلة، فكيف يبني ثقة نفسه وهو أصلا بالكاد يستطيع ان يجدها كأنسان مكتفي الحاجات.
وعندما نظرت في نظريات الاسلام بهذا الخصوص، وتدارست ايات القرآن الكريم فيها، واراء من سبقونا الى استنباطها، وجدت ما هو اكثر عمقا واقرب للنفس تقبلا، فهذه اراء حول بناء الثقة بالتفكر العقلي، والتي يقدر عليها معظم المسلمين لو أرادوا، (ان في خلق السموات والأرض لايات لاولي الالباب)، والثقة بالنفس اساسها اعمال العقل في التفكر لاتخاذ القرارات الصائبة التي من شأنها نقل المرء من نجاح الى نجاح، فتزيد ثقته بنفسه. وتلك ايات التخطيط للمستقبل وعدم الركون للظروف ومن ثم احتماليات الفشل المؤدي لفقدان الثقة (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). وغيرها ايات نبذ اليأس والقلق والتردد، والايمان بالقضاء والقدر، (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }، { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }. وغيرها الكثير من ايات الطموح والايجابية والسيطرة على النفس عند الغضب والتواضع والاهتمام بالمظهر اللائق وحسن الاخلاق، وكلها معززات الثقة بالنفس وبناء الجسور معها وتعظيم نقاط قوتها وتلافي نقاط ضعفها، لتبقى قوية بمعرفتها لذاتها، ومعرفتها لخالقها الرحيم بها، الذي يريد لها السعادة في الدنيا والاخرة مصداقا لقوله تعالى (ولا تخافوا ولا تحزنوا) وفي اكثر من موضع بالقرآن الكريم. وكل هذا جميل ورائع جدا وبه نهتدي لانه كلام الله لا ريب فيه، ولانه هو صانع هذه النفس وهو أعلم بما يسعدها وما يتعسها، لانه هو من أضحك وأبكى، فلا شك هنا ولا ريبة ولا رفض، ولكن ماذا بخصوص غير المسلمين، او المسلمين ممن هم بعيدون عن دينهم ولا يقرأون القرآن، ويتكاسلون او منشغلون عن عبادتهم وتفكرهم وراحة بالهم.
كانت دراستي المعمقة طيلة ردح من الزمن غير قليل قد خلصت الى ثلاث مجالات تعزز ثقة الشخص بنفسه، مبنية على ما تقدم وليست من خارجه، ولكنها تصلح لكل شخص مهما كان مستواه المالي او العلمي او مهنته، او حتى معتقده، خلصت اليها بعد جهد جهيد من تقاربات مشتركة وتجارب متنوعة بين الشرق والغرب، ورغم اختلاف الثقافات والمستويات والاديان.
أولها؛ محبة الشخص لنفسه، وثانيها؛ رضاه عن نفسه، وثالثها؛ تغافله عن غيره من الناس.
أما أولها، فمن لا يحب نفسه، ويؤمن بانجازاتها، ويحاول التقرب منها، لا يمكن ان يثق بنفسه، أحبب نفسك تجدها، اجعل منها صديقا مقربا ومعشوقا تهيم به لتسعد انت وتسعدها كذلك، اعطها حقوقها لتعطيك ما عليها من حب وواجبات، وتسندك وقت حاجتك اليها، لا تجعلها تحزن، ولا تسبب لها الخوف، انطلق بها لآفاق جديدة كل يوم وكل ساعه، خاطبها وتحدث اليها حديث محب، فهي ذاتك المحب لك، كن معها دوما، خفف من الآمها، ولا ترهقها بما لا تحتمل حمله، تدرج معها بمختلف مراحل عمرك بما تستطيع، ولا تكلفها ما لا تطيق اذا حزنت او تألمت، كن دوما متصالحا معها، رفيقها لها، قبل ان تفارق جسدك عند الموت غاضبة منك، على الاقل اجعلها مطمئنة، تزداد ثقتها بك وثقتك بها.
أما ثانيهما، كن راضيا عنها، ارض عن نفسك بما قدمته لك، فكل بسيط منها كاف، وكل قليل منها كثير، فما خلقها الله لتلبي كل طموحاتك، ولم يحملها الله ما لم تطيق، فكيف بك انت ان تغضبها، وهي هدية الله لك في الحياة الدنيا، فاجعل الرضا بما قسمه الله لك من نصيب وارزاق بردا وسلاما عليها، لا تغضب منها ولا عليها، دعها تعيش بسلام وسعادة ورضا، ما احتصلت عليه منها كافئها عليه، وما قصرت هي عنه لا تلومنها عليه، عاملها كابنك او ابنتك بالرضا والقبول في كل حال، تغنم انت وتزداد هي ثقة بك وأنت بها.
أما ثالثها، تغافل عن الناس، لا تذكر غيرها امامها، فتكون غيورة، فهي تماما كزوجتك تغار من مثيلاتها بالحسن والجمال، لا تؤذيها بذكر من هي احسن منها، ولا تقارنها مع غيرها ممن هن احسن منها، ولا تنزلها لمن دونها فتقارنها بمن هن ادنى منها درجة، هي كما هي بذات مستواها، نفسك التي تحب وترضى، وهي لك وحدك، وليست لغيرك، فلا داعي لئن تقتلها كل يوم بالمقارنات الظالمة، التي تختلف ظروفها عن ظروفهن. تغافل عن غيرها وعش معها وحدها تكن لك، وتزيد ثقتها بك وثقتك بها.
خلاصة القول؛ لا ثقة بالنفس تزداد مالم تعامل نفسك بالحب والرضا والتغافل عن غيرها، فإن لم تستطع ان تحبها، كن راضياً عنها على الأقل، وإن لم تستطع حبها والرضا عنها، فلا تقارنها بغيرها، وتغافل عن الناس دونها، فما هي الا امانة لحين من الدهر مسمى، من أكرمها أكرمته، ومن أهانها فقدته وفقدها.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان