أ.د. عبد الناصر هياجنه - أستاذ القانون الخاص -كلية القانون بجامعة قطر - يحدثُ أن ألتقي ببعض تلاميذي في ميادين العمل المختلفة، أفرحُ كثيراً برؤيتهم هناك يشتبكون مع الحياة ويحققون ذواتهم ويسيرون في مدارج التقدم على الصعيد المهني أو الأكاديمي. يُعكر صفوّ فرحي ما يبوحون به أحياناً من اختلافاتٍ يجدونها ويعانون منها بين ما تعلموه في الجامعة وما يعايشوه في ميادين العمل والواقع!
فيأتي السؤال القديمُ الجديد، أين تكمن المشكلة؟ هل فيما نقدمه لهم في الجامعات من نظرياتٍ وأحكامٍ وقيم، أم فيما يجتاحُ الواقعَ من تناقضاتٍ ومغالطاتٍ وإكراهاتٍ وضغوط؟ لكن المؤكد الذي لا يمكن إنكاره هو أن لدينا فجوة بين الواقعين! فالجامعة واقع، والعمل واقع، وبينهما خطوط التقاء وافتراق.
وإذا كان يصعُب تحديد هوامش الاختلاف بين النظرية والتطبيق بدقة، لكنَّ المؤكد هو وجود اختلافٍ بدرجةٍ ما بينهما، ولهذا الاختلاف أسبابٌ محتملة منها:
• إغراق الدراسات الأكاديمية بالجوانب النظرية المجردة للمفاهيم والموضوعات على حساب استعراض الواقع التطبيقي لهذه المفاهيم والموضوعات إلا في إطار مقرراتٍ محددة.
• الجمود النسبي للخطط الدراسية الأكاديمية وعدم تمتعها بالمرونة المطلوبة لمواجهة المستجدات القانونية العلمية والعملية، وفي هذا السياق، يُحسب للخطة الدراسية في كلية القانون في جامعة قطر احتوائها على مقرر "الموضوعات الخاصة" كمقررٍ له من المرونة ما يسمح بتجسير الفجوة المحتملة بين الموضوعات التقليدية وبين الموضوعات الجديدة وتطبيقاتها العملية. فضلاً عن وجود آلياتٍ محددة لتطوير الخطة الدراسية وتطعيمها بالمقررات الجديدة وخاصة في باب المقررات الاختيارية.
• جسامة التناقضات التي ينطوي عليها الواقع في بعض الأحيان إن لم يكن أكثرها. فقوى الواقع ومفاعليها لا تنسجم بالضرورة مع المبادئ القانونية الحاكمة والنظريات القانونية المجرّدة، بل ربما هي في حالة تصادم أو تضادٍّ معها؛ الأمر الذي سيضع تلك المبادئ والنظريات على محك الاختبار عند اشتباكها مع تلك القوى.
ويجدر في هذا المقام التأكيد على أهمية تدريس الأطر النظرية والمفاهيم والجوانب الموضوعية لأحكام القانون؛ فبدونها يصعب فهم الواقع العلمي وتطبيقاته أياً ما كانت تفاصيله. وأن يُخصص في هذا الإطار مساحاتٌ لاشتباك الطلبة مع ميدان الحياة بتناقضاته وتحدياته. وفي خضم ذلك كله لا بد من تعزيز المنظومة القيمية للطلبة حتى تكون درعاً لهم في مواجهة تناقضات الواقع.