بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - كل فراق مؤلم، يخفف من حدة ألمه ابتسامة أمل بتجدد لقاء، أو دمعة حارة تطفىء حزناً في القلب، أو عناق دافئ يدوم عبقه لبرد البعد، أو بضع كلمات - ان وجدت طريقها - باستيداع مؤمل أو رجوع مرتجى تصنع جميل الذكريات، الا وداع الموت؛ لهيبته تتجمد كل الابتسامات، وتتحشرج كل الكلمات، وتسكن كل الحركات، ولا تطفئ حرقته كل العبرات.
تناظرنا محدقة بأشعتها الدافئة شمسُ كل يوم، تستقبلنا صباحاً ذات اليمين، وتودعنا مساء ذات الشمال، ولا يخفى عليها منا اختلاف وجهات نظر، ترى منا كل اتجاهات الخير وترى كذلك اتجاهات الشرور، ترى القاتل والقتيل، والظالم والمظلوم، والكاذب والمكذوب عليه، تشرق مبتسمة من مشرقها، وتغادرنا حمراء صامتة مما رأت، وداعها الصامت مخيف، ولا ندري متى تفاجئنا بمشرقها من مغربها، لترى ذات الشمال قبل ذات اليمين، عندها يصمت كل وداع لتوبة او صدقات او سبيل لرجوع.
تنير ظلمات ليالينا وضاحة قمر جميل، ترافقه بعض النجوم البعيدة، تؤنس وحدة السهارى، وتضيء دروب السالكين، وتهدي كل التائهين لمبتغاهم، ونفرح بهدأة ليلها حيث سكون الكون - المضطرب نهاراً، سويعات قليلات هانئة ذوات راحة ودعة، ما نلبث ان تغادرنا وضاحة بدره بصمت بُعيد السحَر بانبلاج فجر الشمس الصاخبة، وداع القمر محزن صامت في كل ليلة، وعند عرجون كل شهر، يفتقده كل ليل حالك، وكل درب مظلم غير سالك.
يلامس شغاف قلوبنا ايمان عميق حلو المذاق، كلما نفحت من لدنه نسمات ثقة أو راحة بال أو فرح بطيب عيش، ثم نعود لنكتئب لغيابه فجأة بوداعه الصامت، وتطفأ بعده كل بارقات الامل، وتجهض لغيابه كل احلام الطموحات، وتغلق لفقده كل ابواب السماء في وجوههنا، ويتقوقع الجسد الفاني بظل تلك الروح الهزيلة. وداع الايمان الصادق صامتٌ قاتل للروح، يغادرنا موتى بأجساد أحياء.
يسند ارواحنا قوة اجساد عنيفة، تضرب صقاع الارض اسفارا، وتمخر عباب البحار شجاعة، وتصعد عالي الغيمات تحليقا، تبني وترتفع، تكتشف وتخترع، تناطح قوة الحديد، وتقهر صعاب الزمن، ثم يكتنفها ضعف يتلوه ضعف، تهزل وتمضحل، ويغزوها بياض الشيب، وانحناء الظهر، وضعف البصر. تغادرنا القوة بصمت، وتودعنا بلا استئذان، ولا بوادر لعودة كما كانت. وداع القوة صامت قاهر.
ينير اجسادنا وارواحنا عقل راجح، جميل يزين كل عيب فينا، يدير امورنا، ويحسن اختياراتنا، هو ليس في غيرنا من المخلوقات، نرتفع به عنهم درجات ودرجات، علما راقيا، وفكرا ينير دروبنا، ثم يضمحل في مسكنه - الدماغ - وينكس في الخلق كالطفل الصغير، لا يرشد لقضاء حاجة، ولا لتذكر حبيب او قريب، ولا حتى لذكر رب رحيم. وداع العقل صامت مهيب، لا حياة بعده لبشرية هانئة، اذا سافر لا يعود، انه الوداع الصامت ايضا.
خلاصة القول؛ كل النعم التي ننعم بها ذات بهجة، نحبها وهي عاملة كاملة - لكنها منسية، ونفتقدها عندما تغادرنا بصمت، وداعها الصامت قسرا ينبئنا: ان قد اكتفيت منكم، تتفيأون ظلالنا، ولا تشكرون خالقنا، اكثرتم جداله والعناد، له العتبى حتى يرضى، فرضاه يغني، وعتابه سبحانه وتعالى لطيف صامت بوداع نعمه وواسع كرمه وجزيل عطاءه. اللهم اني اعوذ بك من زوال نعمك، وفجاءة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك - هكذا فهمت الحياة:
كل وداع صامت قسري، وكل وداع صامت عاتب.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان