سلامة الدرعاوي - خلال الأسابيع القليلة الماضية أصدرت المحاكم النظامية قرارات إدانة بحق عدد من الموظفين في القطاع العام، وأصدرت بحقهم أحكاما قضائية متنوعة ما بين الحبس لسنوات طويلة، ودفع مبالغ وتعويضات مالية نتيجة لما قاموا به من جرم استحق تلك العقوبات.
الأحكام القضائية الأخيرة كانت نتيجة للتحركات الإيجابية التي قامت بها هيئة مكافحة الفساد في مساندة أجهزة الدولة المختلفة في التحقيق بسلوكات الموظف العام، والتي أدت بعض القرارات الإدارية إلى التسبب في إهدار المال العام، لا بل والاعتداء عليه بأشكال مختلفة مستغلين صلاحيات الموظف العام والسلطات الرسمية التي يتمتع بها.
التطور النوعي في عمل هيئة مكافحة الفساد في الآونة الأخيرة يبعث برسالة مهمة للمجتمع الداخلي نحو تعزيز مبدأ الرقابة والمساءلة والمحاسبة لكل من تسول له نفسه التلاعب بالمال العام.
السياسات والإجراءات التي قامت بها هيئة مكافحة الفساد تعطي ثقة للمستثمرين ومجتمع الأعمال بأن استثماراتهم مصانة ومحمية بالقانون قولا وفعلا، ويعزز نظرة المجتمع الدولي والمؤسسات الاقتصادية العالمية ثقتها بالاقتصاد الأردني الفعال في مكافحة الفساد وتقريب الاختلالات في المجتمع بشكل تلقائي ومؤسسي، وتساهم بشكل مباشر في تطوير الإدارة العامة وتنمية القدرات البشرية للعاملين في القطاع العام.
فالأحكام القضائية الأخيرة تنسف مقولة أن الموظف العام هو موظف محصن، فطالما كان المسؤول الحكومي يتمتع بحصانة مخفية عن أي مساءلة قانونية رغم أن القوانين لا تفرق بين مواطن ومسؤول في مكافحة الفساد.
وما كان يحدث على أرض الواقع أن المساءلة القانونية كانت تطال من هم غير المسؤولين رغم أن المنطق كان يقتضي إشراكهم في التحقيق، خاصة في قضايا الشركات التي أحيلت خلال السنوات العشر الماضية للجهات الرسمية.
النمط السابق من التعاطي مع عمل المسؤول بدأ مشهده يتغير للرأي العام شيئا فشيئا مع إحالة هيئة مكافحة الفساد ملف أحد المشاريع الإنشائية إلى النيابة العامة نتيجة ظهور أوامر تغييرية كبرى أدت لتكليف الخزينة ملايين الدنانير، إضافة لفقدان أسس المنافسة في طرح العطاء.
نعم، الفساد الإداري في القطاع العام أخطر وأكبر بكثير من الفساد في باقي المجتمع، وشاهدنا باعيننا قرارات حكومية مختلفة أفقدت الخزينة مئات الملايين من الدنانير نتيجة الاجتهادات الخاطئة والتسرع في اتخاذ القرارات.
لقد بات واضحا أن جزءا كبيرا من القضايا التي تسببت في هدر المال العام تغيب فعلا عن الأسباب التي دفعت لتكبيد الخزينة ملايين الدنانير، مما أحدث هدراً في المال العام، حيث كانت الموازنة بأمس الحاجة إلى كل فلس فيه لتلبية احتياجاتها التمويلية المتزايدة دون اللجوء للاقتراض.
هذا التوجه له أهمية في استعادة ثقة الشارع بالخطاب الرسمي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة والشفافية، لكنه مشروط باستكمال ملفات التحقيق وعدم وضعها على الرف مثل ملفات عديدة اختفت ولم نعد نسمع عنها، فالنجاح في ترميم جدار الثقة بين المؤسسات الرسمية والمواطنين مناط بالوصول للحقيقة في هذه القضايا، سواء أكان الحكم الأخير بالإدانة أو بالبراءة، فالمطلوب الاستمرار حتى النهاية.
لنعترف بصراحة، أن الموظف والمسؤول الحكومي كانا حتى فترة وجيزة وبشكل غير مباشر محصنين من أي مساءلة أو محاسبة نتيجة قيامهما بأنشطة مخلة بالأعمال الموكلة إليهما، حتى الوزراء ورئيس الوزراء فهؤلاء أيضا محصنون، وأكثر ما قد يحدث لهم هو قبول استقالاتهم، وبعد أشهر قليلة سرعان ما يتم تعيينهم في مناصب عليا في الدولة من جديد، وكأن شيئا لم يكن أو يحدث.
حصانة المسؤول في القطاع العام في ظل غياب المحاسبة والمساءلة هي التي أدت إلى هذا التراجع الكبير في أداء الإدارة العامة، فلو كانت هناك محاسبة فعلية ومحاكمة من كان مسؤولا عن خطة إعادة هيكلة القطاع العام والتي أدت إلى تهجير كل الكفاءات للخارج وهروبها مقابل إحلال من تساقط على الوظيفة العامة بالبراشوت.
أهم عنصر في إصلاح القطاع العام هو تعزيز مبدأ المساءلة والتقييم أداء الموظف العام، ونشر ثقافة الثواب والعقاب كإجراء أساسي في التعامل مع الموظفين على مختلف درجاتهم.