د. منصور محمد الهزايمة - يوافق يوم الأحد القادم الخامس من حزيران الذكرى السنوية (55) للهزيمة النكراء التي وقعت للأمة العربية في مثل هذا اليوم من عام (67)، والتي شكلت حدثا مفصليا في تاريخ الأمة، ما زالت تداعياتها حاضرة في حياتنا حتى اليوم، ولم يلتئم جرحها بعد.
نتيجة تلك الحرب اتسعت رقعة الدولة الوليدة غير المعترف بها عربيا حتى حينه بثلاثة أضعاف ما كانت عليه، عندما هزمت جيوش ثلاث دول عربية في ستة أيام؛ فاحتلت سيناء بكاملها حوالي (60000كم2)، ومعظم الجولان السورية حوالي (1250كم2)، وما تبقى من فلسطين التاريخية؛ الضفة الغربية حوالي (6000كم2)، وقطاع غزة (360كم2).
جاءت هزيمة الخامس من حزيران بعد (17) عاما من نكبة فلسطين (48)، حيث كانت الأمة حتى حينه ترفض الاعتراف بالواقع الجديد، ليتبادل العرب شتى الاتهامات خاصة في دول جوار فلسطين حول المسئولية عما حصل، وبالتالي شهدت هذه المرحلة تغيرات داخلية وبينية في معظم الدول العربية، فانتعشت في تلك المرحلة سوق الانقلابات بحجج التجديد والاصلاح، لكن كان أهمها إنكار ما لحق بالأمة من خسارة في فلسطين.
شكلّت الهزيمة (النكسة) صدمة جديدة للأمة، خاصة أن وسائل الاعلام العربية والعالمية وقتها طمست حقيقة الموقف فصورت أن القلة تواجه الأكثرية، وأن العرب يسعون للحرب، ويحثون الخطى نحوها بخطوات استعراضية، لتنقلب الحرب عليهم إلى هزيمة نكراء، أصابت الأمة في مقتل، وليهبط سقف الشعار عندها من "تحرير فلسطين" إلى "إزالة اثار العدوان" بمعنى استرجاع ما أُحتل فقط عام (67) دون فلسطين.
حاولت الأنظمة الثورية أن تبرر ما حصل؛ بتخفيف وطأة الفشل عن طريق التلاعب بالألفاظ، عندما وصفت ما حدث بأنه نكسة وليس هزيمة، أي أن هذه الأنظمة كانت تحقق الإنجازات في كل الاتجاهات، لكن النكسة جاءت لكي تعيق تقدمها سياسيا وعسكريا واجتماعيا واقتصاديا، فإنها كبوة الفارس، أمّا الفرية الكبرى فكانت الادعاء بفشل العدو الذي لم يستطع إسقاط تلك الأنظمة التقدمية، كما أن القوى العظمى هي التي حاربتنا لا العدو وحده.
تواترت الروايات الغربية والإسرائيلية لقادة سياسيين وعسكريين وأمنيين ممن شاركوا أو عاصروا الحرب، لكنّ الرواية العربية لما حدث ما زالت غائبة، ولم نحظ حتى اللحظة بدراسة أو رواية تتسم بالصرامة أو حتى بالرزانة توضح لنا ما حدث، فقد كان ذلك من المحظورات في ظل أنظمة مهزومة ومرعوبة، لكنها تصدرت المشهد من جديد بحجة العمل لمحو اثار العدوان، لذلك كله وأكثر، كانت التبريرات غير الواقعية هي السائدة.
كانت حاجة إسرائيل لنشوب هذه الحرب قوية ودفينة، وإن تظاهرت بأنها على وشك أن تواجه الطوفان، بل أعتبر بعضٌ من قادتها أن نشوء إسرائيل وإعلان استقلالها كان عمليا يوم (5) حزيران، وأمّا ما تحقق لهم قبل ذلك عام (48) فقد عُدّ مجرد مغامرة، لم تستطع المنظمات الصهيونية أن تقنع بها يهود العالم، أو القوى العظمى الصاعدة (أمريكا والسوفيات) وقتذاك، فجاءت نتيجة هذه الحرب لتؤكد للجميع أن إسرائيل قامت لتبقى، وأنها أكثر من مجرد مغامرة طائشة، بل أن العرب أنفسهم أصابهم الاعجاب الكيدي بما حققه عدوهم، الذي طالما وصفوه بالجبن والضعف.
لم تُسلّم الأمة بما حدث في نكبة (48)، وتشريد الشعب الفلسطيني من وطنه، فاستعر السجال الكلامي بين السياسات والتيارات والأيدولوجيات المتباينة، شارك بها سياسيون ومثقفون وحزبيون كل يدعي صحة ما هو عليه من عقيدة ويخوّن الأخر، فالهزيمة كانت بسبب البعد عن الدين!، بل لغياب الديمقراطية وتهميش الشعوب!، وربما لبعدنا من الاشتراكية!، كما وسمت القوى التقليدية التي حكمت من بعد الاستقلال بالتخلف والرجعية، فانتعش سوق الانقلابات بتأثير النكبة، ما دفع إلى هزيمة الخامس من حزيران التي فاقت كل التصورات، لكن الحرب ليست بالدين، أو بالديمقراطية، أو التنظير، بل تحتاج التخطيط والتدريب والتجهيز والتمويل والواقعية السياسية والعسكرية، وليس شرطا أن يفوز فيها الديني أو الديمقراطي أو القومي، والحياة مليئة بأمثلة ذلك، لذا ما زلنا حتى اليوم نخسر كل حرب، ولم نحرر أرضا، ولم نبن ديمقراطية، أو اشتراكية أو دولة دينية أو أمسكنا بأية هوية.
بعد الهزيمة انتعش بازار المشاريع واقتراحات الحلول التي تُنظّر للحل سواءً على الجانب العربي التي يدعو بعضها إلى الحل العسكري، ومنها ما يروج للحل السياسي، لكن قمة الخرطوم التي انعقدت بعد الهزيمة مباشرة أكدت على لاءات ثلاث "لا للصلح، لا للتفاوض، لا للاعتراف"، ورفع الجانب الإسرائيلي بدوره شعار "الأرض مقابل الاعتراف" لذر الرماد في العيون لكن بشرط استثناء القدس وتجاوز قضية الفلسطينيين بما يشمل توطين اللاجئين حيث هم، كما دخل الوسطاء على الخط.
بمرور عقد من الزمن على قمة اللاءات الثلاث، ظهرت كثير من التطورات، كان أبرزها استعادة العرب بعض الثقة في حرب (73)، وظهور منظمة التحرير بقوة، وصولا لزيارة السادات (1977)، وإبرام سلام منفرد على أكبر جبهة عربية، ليتنزل الشعار إلى "أرض مقابل السلام"، ومن ثم "السلام مقابل الاعتراف"، وصولا إلى "السلام مقابل السلام" وهي الشعارات التي صاغتها إسرائيل ذاتها عملا وواقعا جريا وراء سلسلة تنازلات عربية ما زالت تتوالى ويتبعها شعارات تتهاوى حتى وصلنا اليوم لمرحلة التطبيع المجاني!
بعد مضي أكثر من نصف قرن على أكبر هزيمة في تاريخ العرب، ما زلنا لا نجد وثيقة واحدة تسرد الرواية أسبابا ونتائج، ولو من منظور علمي أو قيمي، لاستخلاص العبرة على الأقل ممّا جرى فيها، كما أن شعاراتنا هوت في كل مرحلة لنقدم المزيد من التنازلات مع شعارات جديدة، وطالما ادعت الأنظمة إياها أن الزمن ليس بصالح إسرائيل، لكن الأخيرة كانت تصنع الواقع على الأرض بذكاء، لنقابلها بمزيد من التنازل، وخفض منسوب الشعار، حتى فقدنا القدرة على الفعل، بل وردة الفعل.
الدوحة - قطر