زاد الاردن الاخباري -
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني - التطورات العالمية، وإرهاصاتها المتواصلة منذ إندلاع أزمة جائحة كورونا- كوفيد 19- ومروراً بالحرب الروسية الأمريكية الأوروبية ، عبر أوكرانيا، تؤكد أهمية الذهاب نحو استشراف حقيقي للمستقبل، قائم على دراسات التطورات والبيانات والمؤشرات العالمية القائمة، وتوقعاتها المستقبلية، ذلك أن الاستشراف عملية منهجية معرفية علمية، وليست مجرد تكهنات أو تنبؤات أو تنجيم.
ولعل ما يحدث من تطورات عالمية صحية، وسياسية، وعسكرية، بدأ ينعكس بشكل واضح على المؤشرات العالمية الاقتصادية والاجتماعية الكلية، فقد بات من الواضح إنّ الوباء أفضى إلى نتيجتين أساسيتين،
الأولى: أرتفاع كلف الإنتاج، بسبب تعطل سلاسل التزويد، ما يعني توَلّد التضخم المعروف بتضخم "دفع التكاليف"، وهو تضخم لا تعالجه السياسات النقدية الانكماشية عبر رفع أسعار الفائدة،
والثانية: حالة من الركود الاقتصادي العالمي بسبب تعطل الإنتاج في العديد من الخدمات الرئيسية في العالم، وخاصة في القطاعات الخدمية المُساندة واللوجستيات التابعة لها، والتي توظِّف الجزء الأعظم من القوى العاملة عالمياً، وهذه أساسها خطوط الطيران، للأفراد والبضائع، وخطوط النقل بأنواعها المختلفة، وقطاعات الخدمات المالية، والسياحية، والتعليمية، والترفيهية المحلية، وخدمات التجارة العامة الداخلية، والعديد من الخدمات الصغيرة والمتوسطة المرتبطة بكامل قطاع الخدمات، والجزء الأكبر من قطاعات الصناعة، ما عدا تلك المتعلقة بالصناعات الطبية، والصحية، وخاصة ما يتعلق منها بالتعقيم والحماية الوبائية.
وكلا النتيجيتن أوصلا الاقتصاد العالمي إلى معدلات نمو متدنية، بل وسلبية في العديد من الاقتصادات العالمية. ذلك بالرغم من انتعاش قطاعات الصحة، وبعض أوجه تكنولوجيا المعلومات، التي وفرّت منصات بديلة لبعض الخدمات اللوجستية، وقطاعات التزويد، والقطاعات المساندة لها.
والمحصلة أن العالم خرج إلى إطلالة العام الحالي بخفين مليئتين بالتضخم والركود، رافقهما أثار جانبية نتيجة توافر كتل نقدية طرحتها بعض الدول، لمواجهة وباء كورونا، لتكون داعم للعمال، لمواجهة التعطل المؤقت في حينه، ولفئات وشرائح واسعة من المواطنين، كما حدث في الولايات المتحدة وكندا، والعديد من الدول الأوروبية، ما ولّد حالة من توافر النقد والسيولة، وعدم توافر السلع بسبب الوباء وإغلاقاته، وأدى ذلك في النهاية إلى ظهور النوع الثاني من أشكال التضخم، وهو التضخم الذي يُسمى "تضخم سحب الطلب"، ما يتطلب سياسات نقدية انكماشية، بعكس الحالة السابقة، وبالتالي برز للعالم لأول مرة ثنائية التضخم غير المسبوقة، أي تضخم التكاليف، وتضخم الطلب.
بيد إنّ معالجة الأخير، تضرب بعنف إمكانية السيطرة على الأول.
لأن السيطرة على تضخم التكاليف، لا يكون إلا عبر سياسات تؤدي إلى توسع الإنتاج عبر الاستثمار، وبوابة ذلك تخفيض أسعار الفائدة، وليس رفعها، ما يُساعد على تخفيض تكاليف الإنتاج وتوسع حجم العرض في الاقتصاد.
أما الحرب القائمة، والتي لن تهدأ تبعاتها قريباً، وقد تستمر حتى نهاية العام، على الأقل، فقد أفرزت ثلاث حقائق مُفزِعة للعالم المتقدم.
ألأولى، أن البحث جارٍ عن ألية تسويات مالية بديلة للدولار الأمريكي، والعملات التقليدية، خاصة مع توجهات روسية صينية متأنية نحو ذلك، وهو أمر سيتحقق عالمياً خلال العقد الحالي من هذا القرن، على ما يبدو.
والحقيقة الثانية، أن الأمن الغذائي العالمي تحت المِحَك، وبالتالي على الدول أن تعمل ضمن كتل جديدة لتحقيق جودة حياة مناسبة لشعوبها، فلا علاج مناسب لنقص الغذاء سوى بزيادة إنتاجه، ذلك أنه لا توجد أرض تصلح لزراعة كل أنواع الاحتياجات الزراعية، وإن وجدت فإن رؤوس الأموال غير متوافرة في دولة واحدة، أي أن العالم يتجه نحو كتل اقتصادية جديدة، مبنية على المصالح في التبادل التجاري، أي أننا أمام نظام مقايضة عالمي جديد، يقوم على تبادل المنافع، أكثر من تحقيق الميزة التنافسية، أو الميزة النسبية فحسب، على أهمية الأخيرة في توزيع العمل وتخصيص الموارد.
والحقيقة الثالثة، والأهم، أن الدول الأكثر كسباً في المستقبل، هي تلك التي ستعمل على تطوير اقتصادها خلال فترة انشغال العالم المتقدم بتوفير ملاذاته من الطاقة، ومن الغذاء، ومن الأثار المدمرة للتكتلات السياسية.
ومن هنا فإن الدول الناشئة، بما فيها الصين، وتلك التي هي في طور النشوء الاقتصادي ستكون الأكثر فوزاً وتقدماً، خاصة إن خاضت تجربة التخطيط الاستشرافي السليم، فجميع دول أسيا الوسطى، ومعظم شرق أسيا، وجميع منظومة الدول العربية وشمال أفريقيا، تتمتع بموارد تكاملية مشتركة ضخمة، من الغذاء، الطاقة، والمصادر المعدينة، والمصادر الطبيعية، وحتى من المياه الكافية نسبياً، وتتمتع بطاقات شبابية كبيرة للغاية، وقدرات على الإبتكار واحتضان التكنولوجيا، وتوطين، بل ونقل، المعرفة فيما بينها.
أما الرابح منها فهو الذي سيستطيع خلق كتلة اقتصادية متوازنة، قائمة على مصالح اعتمادية تبادلية مشتركة، قادرة على التواصل مع العالم، كملاذ لكل ما دمرته السياسة العالمية القائمة بين اللاعبين الكبار الحاليين.
والمُلخّص العام للاستشراف في الشأن الاقتصادي يتمثل في أنّنا أما تولد آليات تسويات مالية جديدة قادمة، بعضها رقمي، والأخر غير تقليدي وغير مرتبط بالعملات أو المعادن القائمة، وتكتلات اقتصادية جديدة، قائمة على المقايضة بناء على المصالح المشتركة.
أما في الشأن الاجتماعي العالمي، فمن الواضح أن تبعات الجائحة والحرب ستزيد من تَسَطُّح الطبقات الفقيرة، وخاصة في مستويات الفقر المدقع، والتي زاد روادها بنحو 70 مليون شخص خلال العامين الماضيين، وهو ما سيشكل العبء الأكبر على الاستقرار الاجتماعي العالمي، كما إنّ التحولات الاقتصادية ستخلق نسب من البطالة أكبر، وبالتالي ستفاقم من المشاكل الاجتماعية للبطالة، وخاصة في شأن الاستقرار والسِلم المجتمعي. والخروج من كل ذلك يحتاج إلى رؤى جديدة، رؤى اقتصادية، قابلة للتطبيق من جهة، وقابلة للمتابعة والتنفيذ والجدية بالتعامل معها، من جهة أخرى. بل إنّ هناك حاجة إلى التحول نحو صناعة الكتل الاقتصادية الجديدة، وليس الانتظار على أبواب التبعية والاتكالية.
أما المحصلة مما سبق جميعه، فهي التحولات السياسية القادمة، فالظاهر أن ما يشهده العالم من مؤشرات اقتصادية مقلقة، وخاصة في مجال تواضع نسب النمو الحقيقي، وتزايد معدلات البطالة، وتفاقم نسب التضخم، وتوسّع جيوب الفقر، سيؤدي ذاك كله إلى تآكل القوة الشرائية للعديد من الطبقات ذات الدخل الثابت، وخاصة تلك المُعتمِدة على تقاعدها وعوائده، وهذه كثيرة في الدول المتقدمة، بسبب التركيبة السكانية المتقدمة في السن، ولعل المُحصِّلة السياسية لك ما سبق هو أننا أمام عِقدٍ من التغيّرات الكلية في الأنظمة الحاكمة في دول شمال أمريكا، وفي المجموعة الأوروبية، فبقاء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة من غلاء في المعيشة، وتبخر للوظائف، وفقر مدقّع، سيؤدي بالناخب في تلك الدول إلى التحول نحو الأحزاب المقابلة، وحكومات الظِل، خاصة وأن لدى المعارضة وجبة دسمة من المؤشرات السلبية لاستخدامها ضد الأحزاب الحاكِمة حالياً، ومائدة طويلة من الوعود التي يمكن تقديمها، ومن هنا فإنّ القطب المعارض للحكم الحالي في كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وحتى في المانيا وفرنسا، والعديد من الدول المتقدمة، سيجد أرضاً خصبة من التقدم نحو الحكم، وقد يكون من نصيب بعض الأحزاب الناشئة قواعد جديدة تدفع بها للمقدمة، عبر التآلفات المطلوبة، أو المعادلات السياسية الجديدة.
ولعل مفتاح الحلول لكل ما تقدم هو القدرة على استشراف حلولٍ لمستقبلٍ أفضل، ذلك إنّ الأفق يوحي بكافة أشكال التحديات والمعضلات القادمة بكل وضوح، ذلك الاستشراف يتطلب حكومات، وسياسين، وأصحاب قرار، من ذوي الرشاقة العالية الذين يمكنهم فهم التحديات ودراستها، ومن ثم وضع الحلول المرنة القادرة على امتصاص الأزمات والبحث عن الفرص في خضمّها، والواعية لحجم الموارد المتاحة، والأمكانات المتوافرة، وبالتالي المُبتكِرة للحلول ضمن معادلة من التشاركية العادلة والشفافة مع رؤوس الأموال في القطاع الخاص المحلي والعالمي، والتعاون العالمي والإقليمي مع الدول الراغبة في تطبيق سياسات الاعتمادية المتبادلة، ذات المنافع المشتركة والمصالحة المستدامة.
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية