منذ أن دخلنا الألفية الثالثة أصبح العالم شكلا ومحتوى يتجدد ويتغير في فترات قياسية قصيرة جداً، وللمقارنة فقط فإن التغير واصل ثباته الزمني بحيث كان متدرجاً وبطيئاً ويتطلب عقوداً من الزمن حتى يكتمل، الآن نحن نتحدث عن ذات التغيّر الذي أصبح لا يتطلب سوى أقل من يوم ليكتمل ويبدأ تغيراً جديداً وهكذا أصبحنا في دوامات التغيير التي لا تنتهي ولا شواطئ أو ضفاف لها، فقط دوامات وفقاعات هلامية تكاد تعصف بكل المسلمات والبدهيات التي عشنا عليها لقرونٍ طويلة. ولا أدلّ على ذلك من اكتشاف اللقاحات لفيروس كورونا والتي لم تتطلب أكثر من سنة ونصف حتى بدأ يتم توزيعها وتناول جرعاتها في أرجاء العالم، فيما احتاج الجدري إلى قرون عديدة حتى تم اكتشاف المصل الخاص بالتطعيم والعلاج وذلك عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية تخلّص العالم من وباء الجدري في عام 1980 .
إن جريمة الابتزاز الإلكتروني لها خصوصية واختلاف كبيرين عن جريمة الابتزاز التقليدية، وهذه الخصوصية وذاك الاختلاف انما مرجعه إلى الطبيعة المميزة لتلك الجريمة ، حيث أنها تتم في مسرح جريمة افتراضي، يكتنفه الغموض والتخفي، وتختلف أدلته عن تلك الأدلة الملموسة من بصمات أصابع تركت بإهمال وتعجل ، أو قطرات دماء لجاني جرح مع ضحيته، فجريمة الابتزاز الإلكتروني- كأحد صور الجريمة الإلكترونية – ترتكب في مسرح جريمة تحده نقاط الاتصال والتكنولوجيا الرقمية، وهذا الاختلاف بين الجريمتين التقليدية والإلكترونية يجعل طرق ارتكاب الأخيرة تعتمد على وسائل التكنولوجيا الحديثة بشكل أساسي.
إن الغموض قد صاحب تعريف الجريمة السيبرانية، واختلفت التعريفات لهذه الجريمة، وإن جمعها خط أساسي واحد وهو استخدام التكنولوجيا والواقع الافتراضي كمسرح جريمة، وكذلك مرتكبها ذو المهارات والصفات المتمايزة عن المجرم التقليدي، ومما تتسم به جريمة الإبتزاز أن الطرف الضحية يكاد يكون شريكاً في الجريمة من خلال موافقته وليس رضوخه في البدايات على ما يطلبه منه المبتز، بل قد يكون الضحية نفسه في مرحلة ما من الإبتزاز هو المبتز نتيجة التهديدات الموجهة له من الطرف المبتز الأصلي. والابتزاز ليس حكراً على فئات ذات صفات ومؤهلات خاصة، فقد يصير الشريك أي الزوج أو الزوجة مبتزاً، أو الصديق أو الموظف أو أحد أفراد العائلة، او الحبيب، فإذا توفرت أركان الجريمة الإلكترونية للإبتزاز يمكن أن يمارسها ويقوم بها أي شخص في حال توافرت النيّة لذلك.
يعد ابتزاز النساء أكثر أنواع الابتزاز الإلكتروني شهرة وانتشاراً، حيث أن جرائم الابتزاز الإلكتروني للنساء تعتبر النموذج المثالي للجريمة، سيما ما إذا كان المبتز رجلاً وضحية الجريمة فتاة أو إمرأة، وذلك يرجع إلى أنه غالباً ما يكون تهديد المبتز للمرأة هنا أدواته فيها صوراً فاضحة أو محادثات خادشة للحياء، أو عرضاً مرئياً لعلاقة غير شرعية جمعت ما بين المبتز وضحيته.
تعتبر جريمة الابتزاز الإلكترونية نتاج الاستخدام السلبي لثورة التكنولوجيا التي لحقت بالعالم، وهي أثر من الآثار غير المرغوبة لهذا التقدم العلمي المذهل، الذي جعل المجرم يختبئ خلف شاشة ما، ويمارس عملاً إجرامياً بالاعتداء على مصلحة للضحية، وتتم الجريمة عن طريق قيام الجاني بالضغط على المجني عليه بالتهديد تارة، والوعيد تارة أخرى، وذلك بنشر معلومات أو صور أو تسجيلات لا يرغب المجني عليه في إظهارها على الملأ، الحقيقة تظهر ان المرأة في العالم العربي هي الأكثر عرضةً للإبتزاز خاصة الجنسي منه، حيث يسهل رضوخها بسبب القيود المجتمعية والعادات والتقاليد والخشية من وصمة العار، مما يجعلها فريسة سهلة لوحوش الفضاء السيبراني.
يعد الابتزاز الإلكتروني تحدياً خطيراً ويعتبر أحد إفرازات ثورة التكنولوجيا الرقمية الآخذة في التطور يوماً تلو الآخر، ولعله يكون أبرز الإفرازات انتشاراً، لاسيما أنه لا يتطلب المزيد من الأدوات أو التخطيط الدقيق لاصطياد ضحاياه، حيث يحتاج المبتز إلى صورة أو مقطع مصور أو حتى معلومة في إحدى منصات التواصل الإلكتروني لينسج بعد ذلك فصول جريمته التي يدر من خلالها أموالاً كثيرة عبر طرق وحيل الابتزاز الإلكتروني المتعارف عليها في عالم المبتزين. فالابتزاز الإلكتروني أسلوب من أساليب الضغط والإكراه ضد المجني عليه، يمارسه الجاني لتحقيق مقاصده الإجرامية، وذلك للوصول إلى هدفه الذي قد يكون هدفاً مادياً أو معنوياً.