ليس في كل البلاد عدل، ولكنه في أثيوبيا الحبشة أظهر، هي نبوءة سيدنا محمد مرتين بهجرتين، منذ ظلم قريش لمهد الاسلام وابنها محمد عليه السلام، وليس كل الفتيان كابن نوح العنانزة، لم يقلد شيخاً من شيوخ الحرم بتجويده، ولم ينسَ قلبه حرفاً من حروف القرآن، اجتمع الصدق والاخلاص مع العدل في بلاد العدل بلا موعد، فكانت الدرجات العلى في الدنيا، ونسأل الله له في الآخرة حسن الجزاء وعالي الفرودوس.
محمد نوح العنانزة، ابن الستة عشر ربيعاً، قروياً أصيلاً، لم تغسل دماغه تكنولوجيا العصر، ولم تثنه العاب الببجي عن هدفه السامي، وكذلك لم تساعده ظروف الحياة الشاقة كما ساعدت غيره، ترى في عينيه رغم صغره تعب السنين، بعد ان جاء ذاك الطريق الطويل من خلف جبال عجلون الى المرتبة الاولى عالميا في حفظ اقدس كتاب، واطهر كلام، فأنار الله به قلبه، وسمت به روحه، وصدق الله فصدقه.
لم يشكُ لوكيعٍ سوء حفظه، لأنه في قريته تلك برؤوس الجبال لا يعرف معاصي هذا الزمن، لا يعرف الا دروسه وبستانه وبيته العتيق، الذي أمسى اكثر شموخاً من قصور السلاطين، فيا لروعة حياته وآخرته. صوته الندي لم يشبه أصواتهم، ولا لحنه يشبه ألحانهم، جوّد ورتل ببساطته، بقلبه السليم، بروحه المفعمة بعليل نسيم الجبال، فكان من كان، هنيئا له ولذويه.
ابن نوح هذا لم يأوِ لجبل يعصمه من الماء، ولم يعرف النفاق، بل آوى لكتاب الله واعتصم بحبله المتين، فرفع الله ذكره بين الناس، حتى وصلت حنجرته الندية لكل ناطق بالعربية، ولكل حافظ وتالٍ للقرآن الكريم. حمل الورد بيديه وكان الورد فيهما انفس من ميدالية ذهبية، بسيطاً في معناه، غالياً في مبتغاه، فكان حامل الورد اعبق عطرا من الورد، هنيئا له ولذويه.
محمد الصغير هذا - حفظه الله ورعاه - لم يهاجر لأميركا ولا لأوروبا، بل هاجر لأثيوبيا كما هاجر اصحاب رسولنا الاعظم عليه صلوات ربي وسلامه فجر الاسلام الاول، حيث العدل والمنافسات الشريفة وحقوق الناس وابداعاتهم، وعاد برسالة عظيمة، رسالة بليغة الاثر في أنفس من اوقف دور تحفيظ القرآن؛ أن انتهِ! كفاك خذلانا يا مولانا. ولكن رد الرسالة معروف، لن يرسلوا غيره هناك، فكان الاول، واللهَ نسأل ان لا يكون الاخير.
خلاصة القول؛ من استجار بكلام الله لا يُخذل، ومن حفظه رفع الله ذكره، وحسنت معيشته وآخرته، ومن ظلم بين قومه، سيجد من ينصفه، ولو بعد حين، ولو في جنوب الارض او شمالها، قصة ابداع العنانزة درس وعبرة لكل مجتهد ظُلم، ولكل متوكلٍ على الله تم اقصاؤه، ولكل مستجير بالله تم خذلانه. فآواهم الله ونصرهم وأنصفهم، هنيئاً له من فتى، ولذويه، ولكل من احتذى حذوه.
به وبعدل الله نفرح.
د. أحمد الحسبان