غالبًا ما يَمدح البعض أبناءه بأنهم «يسمعوا الكلام» كما يقال بالمصرية، وهذا القول مؤشر على رغائب الأهل بطاعة الأبناء وممارستهم السلطة عليهم، ويتباهى الأهل بذلك.
بعض الكلام يصل للأبناء، بعضه يسمع، وبعضه لا يطبق، والتربية العلوية المفترضة من الأهل للأبناء تقتضي منهم أن يسمعوا كلام الآباء.
هذا لا يعني أننا كنّا زمان نحكي مع الأباء ونتحاور، بل الحديث كان يتخطى الهموم والمشاكل، لأنها هموم واحدة، كنّا نقوم بتنفيذ الطلبات، وهي أوامر يُصدع لها؛ لأنها متعلقة بتلبية احتياجات الدار والحياة، والأكثر أهمية منها التركيز على الالتزام بالدراسة، أو اطعام الغنم أو جلب احتياجات الدار في حال غياب الأب وانشغاله في اعمال العيش اليومي، فهو إما صاحب حيازة ماشية كبيرة أو صغيرة، أو عسكري يغيب كثيرا أو موظف دولة أفندي أو بيك أو معلم أو فلاح أو عامل، وقلة هم من طبقة موظفي الدولة.
كان للأسرة قروضها الخاصة ودينها القروي البسيط من ممولين محليين تحولوا مع مرور الزمن لاقطاعيين صغار اشتروا أراضي الدائنين وفي كل قرية مُقرض بصيغة مُرابٍ صغير، كان الزاوج وبناء البيت فيه عونة الأهل وحماس الجار للجار.
اليوم الكل مرهون براتبه للبنك، وتحولنا لرهانات الراتب وحاسبات الانفاق العادي والتفاخري ومصاريف العلم والانترنت والرحلات والتعليم الخاص، وقلة ساكنون في الريف يمارسون مهنيات الزمن الجميل، غاب الحصاد والحصادون وغاب القمح والبيدر وسكنّا الشقق وبات خبز السوق الافرنجي سيد المائدة.
طقوس الأعراس والزفات والقَطار وصبّة الدار تكاد تختفي، تنتشر المخدرات والمشروبات، ويخاف الأهل على أبنائهم اليوم أكثر، فانشغالات الانترنت تقودهم للجلوس وحدهم، وفي مقابل ذلك ثمة شباب يريد الخروج من زمنه إلى زمن الفعل والعلم وهم قلة، والأغلب تخرّج في الجامعة وينتظر دوره بديوان الخدمة المدنية، وقسم كبير ترعبه الثانوية العامة وإن رسب يكال له اللوم، ويجبر على السفر لتركيا للثانوية العامة ليقال أن ابن فلان أخيراً وصل الجامعة.
ظروف الماضي وحياة الناس لا يمكن إعادتها، والحاضر ضاغط على الناس بكل تحدياته، والأهل في تعب وكد لأجل عيش أبنائهم، ولسنا هنا نمارس الوعظ، لكننا نرى أن ثمة خللا في التواصل وفي الانصات من قبل الجميع تجاه الجميع.
الحكي مع الأبناء قليل، مشاكلهم لا تُسمع، فتقع المحظورات وتقع الجريمة، والحديث والسمع مع الطاعة لم يعد موجودا كثيراً، وتحول إلى كبت وثمة اكتئاب ومشاريب طاقة مؤذية ومخدرات وحبوب متعددة الـتأثير، فلا تتركوا الأبناء يلوذون بها.
ربما ثمة مبالغة هنا، لكن كثير من الطلبة يخاف أن يحكي مع أهله بأنه أخفق في امتحان، أو تخاف صبية أن تقول لأهلها أنها تعرضت لموقف محرج، الأم منشغلة والأب أكثر منها بذلك.
نحتاج لتقنيات سمع مع الابناء، يحتاج الأبناء للإصغاء، والتفاعل معهم ووضع الحلول، ونحتاج لمغادرة الاطمئنان الدائم بأنهم بخير ولا ينقصهم شيء، فهم بحاجتنا دومًا أيها الآباء.
اسمعوا أولادكم، تعلموا منهم، اسمعوا عن اخفاقهم كما تحبوا أن تسمعوا عن نجاحاتهم، لا تلوموهم كثيرا، هم في حرب مع الشارع والمدرسة والجامعة، حرب التعصب والكراهيات والتنمر والصمت وعنف المدارس والصاحب.