في كلّ مرة أرثي لحال أشجار الغار البهية الرزينة دائمة الخضرة ممشوقة الروح والقوام، إذ تحولت بفعل عوامل تسطيح المعاني الساميات، من أكاليل تزين رؤوس الأبطال والشعراء والأباطرة، إلى قرين للمطابخ، كتوابل رخيصة تنكّه مأكولات عصرنا الشره.
وسيبقى أن الغار أقلَّ خسارة واستباحة من طائر الحمام ورمزيته، وعلو شأنه في كتب العاشقين وسيرهم. فهذا المسالم الهادئ سيتحول بفعل العقلية الحربية البشرية إلى طائر انتحاري يهاجم ويدمر طائرات «الدرون» المسيرة حين تكون محملة بالمتفجرات، قبل أن تصل إلى هدفها المرصود.
منذ القدم والحمام مقرون بالسلام ورمزيته. ففي كثير من معتقدات الشعوب أن نوحاً عليه السلام قد أرسل من سفينته في عرض الماء الحمامة رسولا؛ ليعرف إن كان ثمة أمل أن يرى أرضاً بعد الطوفان. في المرة الأولى عادت بغصن زيتون، فصارت هي والزيتون رمزين للسلام والأمان. وفي المرة الثانية عادت وعلى قدميها لطخات من طين؛ فعرف نوح أن اليابسة قريبة. وعرفنا لماذا ما زال الحناء يزين أقدام الحمام.
والناس قبل اختراع البرق والهواتف كانوا يستغلون غريزة الحمام في حبه لوطنه الأم. ولهذا كان يتبادلونه في أقفاص بعد أن يتزاوروا، وكانوا إذا ما أرادوا إرسال رسالة فما عليهم إلا أن يعلقوها بقدم حمامة، ستتكفل بوصلة الحنين إلى الوطن في إيصالها. وهكذا كانت حكاية الحمام الزاجل.
أحب الحمام، وأحب وداعته، ويطربني هديله، وأراه طائراً عاشقاً يمتلئ غزلا لطيفا وحيوية لا تفتر. ولربما أن الإنسان قد سرق منه طريقة القبل بين الزوجين. ولهذا أحزن أننا وبعد أن صرنا نتواصل بالكهرباء والأمواج، وبعدما أن فقدنا الرغبة في مراقبة زوجين من حمام يتطارحان الغرام، وبعد أن غدا هذا الحمام رمزاً مهجوراً في لوحة لبيكاسو مثبتة عند مدخل هيئة الأمم المتحدة في نيويورك. أحزن أن عقليتنا تريد أن تجعله طائرا انتحاريا.
وهنا سيسأل سائل: لماذا يمرغون سمعة هذا الطائر بوحل البارود. والجواب ليس لأن العقل البشري ممتلئ بالقتل. بل لن حسابات الربح والخسارة هي التي تتحكم فينا أكثر وأعمق. فصاروخ باترويت قادر بسهولة على إسقاط تلك المُسيرات. ولكن المال يتدخل ويفصل في الأمر. فثمن الصاروخ يقرب من المليون دولار. فكيف تريدهم أن يستخدموه لتدمير طائرة لا يتجاوز سعرها 500 دولار؟.
في عالم الحسابات الضيقة دائما ما تضيع الرموز والمعاني. وسلام على الحمام في العالمين.