مهدي مبارك عبد الله - بداية اعتذر من القراء الكرام عن طول المقال لضرورات الاستعانة ببعض حقائق ووقائع التاريخ التوثيقية الهامة واسمحوا لي واياكم استهلالا ان نستذكر مقولة السياسي البريطاني المحنك ( وينستون تشرتشل ) حين قال قولته الشهيرة ( في السياسة ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم وإنما مصالح دائمة ) حيث ترجمها الساسة الامريكان على اكمل وجه وبشكل براغماتي اكثر من ميكافلي نفسه
السياسة الأمريكية اتجاه الحاكم المعتمد وجوده على دعمها اشبه بعود الثقاب يستخدم لمرة واحدة ثم ينتهي وخاصة إن كان هذا الحاكم لا يستمد قوته من شعبه وليس له حاضنة شعبية من حوله وبغض النظر عن الطرف الذي سيتولى الحكم والمشاهد والاحداث بهذا الشأن كثيرة
أمريكا لا عزيز عندها ولا صديق لديها ولا علاقة لها تدوم مع أحد ولا وفاء منها لأحد وعلى هذا الاساس يستمر المنطق السياسي الأمريكي التقاليدي في التعامل مع الأنظمة الحاكمة في كل زمان ومكان وهي تحسن جيدا استغلال اصدقائها وابتزاز حلفائها والتضحية بهم وغالبا لا تتحمل أي مسؤولية او تبعية جراء خيانتهم أو تخليها عنهم
التاريخ الأمريكي الحديث والقديم حافل بالغدر والخيانة للأصدقاء والحلفاء لأن السياسة الخارجية الأمريكية والمعيار في التعامل مع الاخرين هو المصلحة فقط ولا مكان لحقوق الإنسان أو التعامل بالأخلاق الحسنة وحتى مكافأة نهاية الخدمة ليست واردة في عرفها وسرعان ما تخلت عن الكثيرين عندما تستنفذ مهمتهم وينتهي دورهم والامثلة يصعب حصرها ولا استثناء لأحد وليس هنالك قدسية لحليف أو صديق والجميع لديها سواسية مقابل المصلحة الامريكية العليا
مصير حلفاء وعملاء أمريكا أيا كانوا عرب او فرس او أفغان أو أوروبيين لم يكن يوماً سوى مسرحية تراجيدية متوالية الفصول من الغدر والذل لا سيما مع أولئك الذين جهدوا لتأمين مصالحها رغم معرفتهم ومشاهدتهم اليومية لحالات كثيرة تثبت كيف تتخلى الإدارة الأمريكية عن أدواتها حينما تقتضي مصالحها الخاصة إلا أنهم بقوا يعيدون تكرار التجربة مرةً بعد أخرى دون أي عبرة او عضة
أول خيانة أمريكية للحلفاء تعود إلى بدايات العلاقات الأمريكية الفرنسية أثناء حرب الاستقلال عام 1778 بعدما لجأت أمريكا إلى عقد تحالف مع فرنسا فيما يعرف بمعاهدة التحالف الأمريكي الفرنسي حيث أكد غالبية المؤرخين أنه بدون المساعدة الفرنسية كان من الصعب على أمريكا تحقيق الاستقلال من بريطانيا الا ان الدولة الأمريكية الوليدة لم تحفظ ذلك الجميل لباريس وعقب اشتداد ساعدها تراكمت الخلافات بينهما حتى كادت أن تصل إلى الحرب وفي الكونغرس الأمريكي هدد الرئيس أندرو جاكسون بإعلان الحرب على فرنسا لو لم تدفع بعض المستحقات التجارية المتأخرة عليها
وبعد استقلالها لم تتوانَ أمريكا عن التنكر لفرنسا والإقدام على امضاء اتفاقية أحادية مع بريطانيا تخدم المصالح الأمريكية وتضر بالمصالح الفرنسية وهو السيناريو الذي تكرر في عام 1898 إبان الحرب الأمريكية الاسبانية وكذلك في حرب فيتنام وفي العلاقة مع الأكراد بشمال سوريا
لم تكن هذه هي بادرة الخيانة الوحيدة التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال حرب الاستقلال فعندما احتاجت إلى جهود بعض السكان الأصليين في الحرب منهم هنود ديلاوير الذين وعدتهم بدولة مستقلة عقب النجاح في الانفصال عن بريطانيا وهو ما لم يتم مطلقاً بل عقب الاستقلال تخلص جنود أمريكيون من ( وايت آيز ) قائد تلك الجماعات الهندية حتى لا يكرروا مطالبهم بدولة مستقلة مجدداً ولم ينل الهنود دولتهم التي وعدوا بها بتاتا
قائمة غدر امريكا بحلفائها واصدقائها طويله ومن الأمثلة على ذلك تخلي الإدارة الأمريكية في مصر عن الرئيس السابق الراحل حسني مبارك الذي طالما انسجم مع سياساتها ومصالحها في المنطقة وعلى الأخص فيما يتعلق بحفظ عملية السلام وحمايتها وهو ما خلق أزمات كثيرة لمصر مع الفلسطينيين وغيرهم ولم يشفع له ذلك عندما بدا لأمريكا أنه لم يعد قادرا على القيام بالمهمة حيث طالبه الرئيس الأمريكي آنذاك بالعمل على تسليم السلطة سلميا وتعيين نائب له لضمان توليه صلاحيات الرئيس إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية
وقد تركته واشنطن بمفرده يواجه مصيره وجعلت نهايته مؤسفة ومحزنة بعد أن خذلته على الرغم من تعامله معها بإخلاص حيث بادرت على عجل بفتح قنوات اتصال مع كل من كان يحتمل ان يكون له مستقبل سياسي في مصر وفي مقدمتهم جماعة الاخوان المسلمين وغيرهم وهو ما فتح الطريق لنمو قوى التطرف السياسي والديني من جديد على ارض مصر
لا بد ان نبين هنا أيضا كيف وجهت الإدارة الأمريكية طعنة حادة الى ظهر الحليف الاستراتيجي السعودي الذي خاض معها كل حروبها ضد الارهاب وقدم لها مبادرة سلام اقليمية لحل الصراع العربي الاسرائيلي ورغم ذلك فتحت الإدارة الأمريكية حوار مع إيران دون ابلاغ الرياض التي انفقت المليارات لشراء الأسلحة والمعدات والذخائر الامريكية استعدادا للحرب القادمة مع إيران التي روجت لها وهددت منها كثيرا امريكا
معلوم جيدا بان السعودية ودول الخليج تعتبر من اهم الحلفاء الاستراتيجيين الذين باعتهم أمريكا وتخلت عنهم ورغم متانة علاقتها بهم رفعت الحماية عنهم أمام قوة التغول الإيراني والتمدد المذهبي الشيعي في مرحلة هامة وحساسة وخطيرة وقد كان من أبرز المحطات التي أظهرت تخلي واشنطن عن دول الخليج سعيها الحثيث لتوقيع اتفاقية النووي التي ستؤدي الى رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران دون إيجاد أي ضمانات كافية ورادعه للأمن الخليجي بشكل كامل
لا يزال البعض يتذكرون قصة شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي طالما سعى لإقامة حلفٍ وثيق بأمريكا طيلة فترة حكمه لكنه عقب الإطاحة به رفضت واشنطن استقباله إلا بعد إلحاح طويل ولأسباب صحية بحتة بسبب انتشار السرطان داخل جسده وبعدها فضلت عدم دعمه مجدداً كما فعلت معه سابقاً حينما انقلب عليه رئيس وزرائه محمد مصدق في عام 1953
وفقاً للكاتب الصحفي المصري أنيس منصور فإن الشاه قال للرئيس المصري السادات ذات يوم ( لا تثق بالأمريكان ففي الوقت الذي كان فيه جيمي كارتر يرقص مع زوجتي في قصرنا بطهران كانت مخابراتهم تخطط وتعد عدتها للإطاحة بي )
مع هذا السياق لابد كذلك من الحديث عن الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري عندما رفضت الولايات المتحدة ايضا استقباله على أراضيها في عام 1986 ليكون كلاجئ سياسي بعد ثورة السودانيين عليه وتناسى الأميركيون ما أسداه النميري لهم من خدمات جليلة بالأخص دفنه المزعوم لنفاياتهم النووية في بلاده ومساعدته في ترحيل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى فلسطين المحتلة وغيرها
اما الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي طالما فكر الامريكيين بجعله شرطيا للخليج ليحل محل الشاه المخلوع فقد غدرت به امريكا واذلته بعدما دفعته لحرب غير مبررة مع جارته إيران وإعطاء السفيرة الامريكية ابريل جلاسبي الضوء الأخضر له لغزو الكويت ثم شنت امريكا حربها الاخيرة على بلاده بدعاوى باطلة لاستنزاف ثرواته وتفكيكه وفي النهاية حاكمته واعدمته
وكذلك تخلت أمريكا عن الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي فور تقديرها أنه أصبح عاجزا عن القيام بالمهام التي من أجلها تدعمه وبعد أقل من عشر دقائق من إقلاع طائرته وهي تغادر تونس إلى الأبد توجه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بتحية حارة للشعب التونسي وهنئه بانتصاره لحقوقه المهضومة من قبل رئيس دكتاتوري ومستبد
اما فيما يتعلق بحليف امريكا البارز الرئيس الباكستاني برويز مشرف الذي عادى شعبه من أجل تقديم فروض الولاء والطاعة لها حيث جعل من أرض بلاده مرتعا للمخابرات المركزية الامريكية بحجة مواجهة الإرهاب وجعل نفسه رهنا للإملاءات الأمريكية وسياساتها المعادية للمسلمين والعرب وبإيعاز مباشر من البيت الابيض أقال صانع القنبلة النووية الباكستانية العالم عبد القدير خان من منصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية وفي النهاية تخلت أمريكا عنه كغيره من الحلفاء والأجراء الذين اعتادت على بيعهم والتنكر لخدماتهم بكل يسر وسهولة
الإدارة الأمريكية تعلم قبل غيرها بان الجماعات الجهادية المقاتلة التي انفقت المليارات في الحرب ضدها لا زالت تتمدد وتتجدد وستبقى تهدد الامن القومي والمصالح الامريكية في المنطقة والعالم ما لم تحافظ واشنطن على حلفائها واصدقائها التقليديين الذين سبق وان ساعدوها في هذه الحرب عليهم لابل قام البعض بخوض جزء من المواجهة نيابة عنها دون فهمهم بان التحالف مع أمريكا لا يشكل درعا كافيا لحمايتهم كحكام ونخب من غضب وثورة شعوبهم
مسارات العلاقات الأمريكية مع العديد من الحلفاء شهدت مؤخرا حالة من التوتر وتراجع في الثقة جعلت الكثير منهم يلجؤون الى البحث عن كفيل وبديل جديد وهو ما دفعهم بالتوجه نحو روسيا للاعتماد عليها والوثوق بها ككفيل وحليف لا يخذل اصدقائه في وقت الشدة وهي تبذل جهوداً جبّارة لنصرة أصدقائها حول العالم وخير مثال على ذلك دعمهم المطلق لنظام الرئيس السوري بشار الأسد والمحافظة على بقاءه بالمحاربة الى جانبه
على عكس ذلك عملت أمريكا مع أوكرانيا في بداية الحرب حيث صريح الرئيس الاوكراني زيلينسكي بعدما دخلت القوات الروسية حدود بلاده بقوله ( باعوني وتركوني وحيدا في مهاجمة روسيا لم أرى احد يحارب معنا ) في إشارة مباشرة منه لأمريكا والغرب خاصة بعدما اعلن الرئيس الأمريكي بايدن بان بلاده لن تنخرط في أي عمل عسكري في أوكرانيا لكنها ستندد بالغزو وتفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا على أهميتها لن تغير على الأرض واقع صنعته الدبابات الروسية وهو ما يلخص واقع السياسة الأمريكية وفق قاعدة ( كثير من الوعود قليل من التنفيذ )
قائمة الغدر الامريكي كما أسلفنا قد يصعب حصرها ومن الحلفاء الذين باعتهم أمريكا على سبيل المثال لا الحصر ايضا الرئيس ماركوس الفلبيني وسوهارتو الإندونيسي وباتيستا الكوبي وفي فيتنام الجنوبية كان الهروب الأمريكي على جثث المتعاونين والحلفاء وهنالك غيرهم الكثير ممن تنكرت أمريكا لصداقاتهم وللأسف بعد كل هذا الجحود الأمريكي لازال هنالك من يثق بواشنطن ويضع كل بيضه في سلتها وينفذ جميع اوامرها وإملاءاتها رغم التجارب في الماضي والحاضر التي اثبتت انه ( لا أمان مع الأمريكان )
فقد شاهد العالم بأم عينيه حقيقة أمريكا التي تحاول إعادة امجادها التي انحسرت وتراجعت الى درجة الهوان بعد هروب جيشها من أفغانستان وصور الجنود والضباط الامريكان يتركون عشرات الاف الدبابات والطائرات وكميات لا تحصى من الأسلحة والذخائر وهم يهربون بطائراتهم تاركين وراءهم حلفاءهم وعملائهم الأفغان يتعلقون بأجنحة الطائرات ويسقطون من السلالم على الأرض خوفا على حياتهم بعد سيطرة حركة طالبان على قندهار وما فعلته امريكا في هذه الازمة شكل فضيحة كبرى بكل المقاييس افقدتها المصداقية امام شعوب العالم كله بعدما اصبحت أفغانستان بوابة الخروج الأمريكي المهزوم من غرب آسيا
والغريب ان ذات السيناريو وبشكل مختلف حدث من قبل في العراق وشمال سوريا حين سحب ترامب القوات الأمريكية عام 2019 مفسحاً المجال لتركيا لشنِ هجومٍ على الفصائل التركية المقاتلة التي اتهمتها انقرة بدعم المتمردين الأكراد على أراضيها وهو ما سيحدث حتما في المستقبل القريب في شمال إفريقيا بعد بروز بوادر جدية لانسحاب أمريكي كامل من المنطقة ( صفقة تسليم السلطة إلى طالبان من طرف الأمريكان جرت بسرية تامة لم يعلم بها حتى حلفاء أمريكا في الغرب )
ميراث الخزي والخذلان الامريكي المتعاظم دفع الصين مؤخرا للسخرية من جارتها تايوان لاعتمادها الكامل على أمريكا لحل خلافها مع بكين لان ذلك سيؤدي بها إلى أن تكون نموذجاً جديداً من أفغانستان والآن بات علينا أن نضيف ضحية جديدة للغدر الأمريكي وهي أوكرانيا
حلفاء أمريكا حتى في أوروبا أصبحوا مرعوبين من طريقة تصرف الولايات المتحدة الامريكية معهم خاصة بعد شعورهم بانها تريد اخضاع أوروبا لعبودية متجددة وهو ما اضطرهم في خضم الفوضى الحالية السائدة في المنطقة الى المطالبة بتسريع بناء قوات عسكرية أوروبية للتدخل الخارجي مستقلة عن الناتو وأمريكا ليحافظوا على مصالحهم ووجودهم لأن الدعم الأمريكي لم يعد مضموناً أبداً حتى لأقرب الأصدقاء
قصة خيانات واشنطن المتكررة وتخاذلها مع حلفائها على المسرح الدولي لم تسقط هيبة واشنطن كدولة عظمى فحسب بل دقت أيضا جرس الإنذار للحكام الذين ربطوا أمنهم القومي ومصيرهم الشخصي ومستقبل بلادهم بأمريكا متناسين عدم قُدرتها على دعم حلفائها كما ينبغي ويتوقّع وعليه فقد آن أوان وقف الثقة ونبذ التبعية والانقياد لأمريكا والارتماء في أحضانها فالمتدثر بها عريان والمتأمل فيها خسران والمعول عليها كالباحث عن الماء في السراب
أخيرا من المهم ان نعلم جيدا ان السياسة الأمريكية جوهرها ثابت والمتغير هو شكلها ومظهرها وكل رئيس قادم يؤدي دوره بحسب متطلبات المرحلة ولهذا يجب على كل حاكم عاقل بعد كل هذه الاستفاضة خصوصاً اؤلائك القريبين والمقربين منها كحلفاء واصدقاء مثل اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية ومنطقة هونج كونج المتمتعة بالحكم الذاتي وحتى فيتنام وغيرهما إعادة النظر في سياساتهم والتخلي عن ثقتهم العمياء بواشنطن بعدما أصبحت سياسات احتواء توسع الصين في منطقتهم من اهم أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية فهل من معتبر ؟
mahdimubarak@gmail.com