حسين الرواشدة - لدى الأردنيين إحساس متراكم وعميق، تحول، للأسف، إلى قناعة، بأن ثمة “قطبة” مخفية وراء كل ما يحدث ببلدنا، لا يهم هنا حركة الممثلين على المسرح السياسي، سواء تعاملوا مع الأحداث بمنطق الاستهانة، أو تصرفوا مع المواطنين باستفزاز، لأنهم لا يعرفونهم، ولا يدركون واقعهم، المهم هو غياب حركة عقل الدولة ومجسّاتها عن الواقع، تزامن ذلك مع اختفاء صوت الحكمة والعقل داخل المجتمع، مقابل ارتفاع أصوات الفوضى والجنون.
على مدى الأيام الماضية (لكي لا أقول السنوات)، ترددت داخل مجتمعنا عدة صرخات، على وقع أحداث مختلفة، بعضها كان مأساويا ومفجعا، مثل ما حدث بإحدى الجامعات وبميناء العقبة، وبعضها كان صادما وثقيلا على حياة الناس، كأزمة ارتفاع الأسعار، وتخريجات المسؤولين لها، وبعضها كان مستغربا وغير مألوف، كاحتجاج الفنانين الأردنيين على سوء تنظيم مهرجان جرش، ثم اعتذارهم عن عدم المشاركة فيه، تصور حتى حين نغطي على وجع الناس بإشاعة أجواء الطرب والفرح، لا يتخلى بعض المسؤولين عن التعامل معهم بمنطق الاستهانة، وعدم التقدير.
حين ندقق “بالقطبة” المخفية خلف ما حدث، نجد أن إغراق مؤسساتنا بالفشل، وإفقاد الأردنيين ثقتهم بها، لا يمكن أن يكون صدفة، وإنما بفعل فاعل، نجد، أيضا، أنه سلوك بعض المسؤولين في إدارة الشأن العام، بإغلاق آذانهم عن الاستماع لمطالب الناس وشكواهم، ناهيك عن ازدرائها، لا يمكن أن يفهم إلا في سياق واحد، وهو الرهان على نفاد صبر الأردنيين، ودفعهم إلى الجدار.
حين ندقق أكثر، نكتشف أن داخل كل مؤسسة من مؤسساتنا إياد خفية، أو أشباح، تتصرف مع الوظيفة التي تشغلها بعقلية “الغنيمة”، هؤلاء لا علاقة لهم بخدمة الناس، ولا بالمصلحة العامة، ولا بحسابات الوطن وأخلاقيات الوظيفة، كل ما يفكرون به هو مصالحهم، وضمان بقائهم واستمرارهم، وإرضاء أولياء نعمتهم، وحين تسأل: من أين جاءوا، من اختارهم، وهل لديهم ما يلزم من كفاءة ومهارات قيادة، تأتيك الإجابة فورا من تقرير كارثة العقبة، وكذلك مما سبق وشاهدنا من تحقيقات بما حصل من فواجع متتالية.
هذه التفاعلات، وغيرها، مما يعكس حالة البلاد، من انسدادات سياسية واقتصادية، وتراجعات لرأسمالنا الاجتماعي، وتحولات لأنماط التدين نحو اتجاهات أكثر تشددا، ومزاج عام ديني واجتماعي مضطرب، تتصاعد وتتحوّر، وتكاد تعلن عن نفسها بشكل سافر، وغير مسبوق.
ومع ذلك لا تجد، للأسف، لدى إدارات الدولة المختلفة من يستقبلها، أو يتعامل معها بمنطق الخطر الواجب استدراكه، هنا أخشى أن أقول بأن البعض يتعمد صناعتها، أو ينفخ فيها، إما لتصفية حسابات سياسية، أو لتمرير أجندات مغشوشة، أو لعجز عن فهم أو فعل ما يجب على المسؤول القيام به.
سؤال المليون: هل يراهن بعض المسؤولين على المزيد من صبر الأردنيين وتحملهم لتجاوز الشهور الصعبة القادمة، في هذا الصيف الحار؟ إذا كانت الإجابة، كالعادة، نعم، أصارح هؤلاء أن صبر الأردنيين يكاد ينفد، وأن أوضاعهم تغيرت نحو الأسوأ، وأن خوفهم على بلدهم هو ما يجعلهم أكثر حكمة من المسؤولين عنهم، لكن مع ذلك يجب أن نفعل شيئا، ليكون هذا الرهان صحيحا، أقله أن يتغير سلوك إدارات الدولة، باتجاه احترام الأردنيين وتقديرهم، وعدم الاستهزاء بهم، وأن يكون ذلك جديا لا رجعة فيه.
لا أبالغ إذا قلت: إن ما حدث بالعقبة فجّر لدى الأردنيين خزانات من القهر والغضب، وأن التعامل الرسمي مع الفاجعة بعث لهم برسالة استهتار غير مسبوقة، لقد كانت فرصة رغم ما فيها من أحزان ومرارة، لنتوقف ونعيد حساباتنا، لكننا (أقصد إدارات الدولة) فوتناها وخسرناها.
يا سادة، أرجوكم، لم يعد الأردنيون يحتملون مزيدا من التجارب الإدارية الفاشلة، ومن الخيبات والصدمات التي يصنعها مسؤولون منزوعون من المسؤولية، الواجب الوطني يحتم علينا أن تتحرك الضمائر الحية لفهم هذا الوضع القائم و”القادم الأسوأ”، وذلك لاستدراك نتائجه التي لن تسعد أحدا، ولن تكون بمصلحة أحد.