مهدي مبارك عبد الله - في تسارع دراماتيكي مذهل واجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أحدث أزماته السياسية بعدما تتابعت الاستقالات الجماعية غير المسبوقة في التاريخ السياسي البريطاني والتي كانت تطالبه بالاستقالة من اجل مصلحة البلد والحزب حيث شملت أكثر من 60 وزيرا ووزير دولة ومساعدي وزراء إضافة الى عدد كبير من كبار المعاونين وأمناء السر البرلمانيين وعدد من النواب المحافظين وقد أذنت استقالة وزيري المالية ريشي سوناك والصحة ساجد جاويد بحتمية سقوط حكومته
حمى الاستقالات تصاعدت بعدما قدم جونسون اعتذارات جديدة على فضيحة إضافية مقرا بارتكابه خطأ فيها بتعيينه في شباط الماضي كريس بينشر في منصب مساعد المسؤول عن الانضباط البرلماني للنواب المحافظين رغم تبلغه في عام 2019 باتهامات سابقة حوله لكنه نسيها عندما عينه وقد استقال بينشر مؤخرا بعدما اتهم بالتحرش برجلين مثليين وهو في حالة سكر
التطورات الأخيرة المتلاحقة جاءت في ظل استياء البريطانيين الذين يواجهون أعلى نسبة تضخم منذ أربعين عام بمعدل سنوي9,1 % وبعد إضراب غير مسبوق لعمال السكك الحديد في نهاية حزيران الماضي حيث دعت النقابات إلى تحركات احتجاجية خلال الصيف فيما أعلنت مهن عدة من محامين وعاملين في قطاع الرعاية الصحية ومدرسين وغيرهم رغبتهم في القيام بتحركات مماثلة
كذلك جاءت وسط الإدانات الواسعة لما وصف بالتخبط واستشراء ثقافة الشبهات والفضائح في معظم اركان إدارات الدولة والتي لاحقت جونسون على مدى شهور حتى افقدته الثقة بحكومته بعد تزايد عزلته وتفشي حالة الاحتقان أثر الخسائر التي تكبدها الحزب في الانتخابات المحلية الأخيرة وتفكير بعض النواب في حزب المحافظين الحاكم بتغيير لوائح الحزب من أجل إجراء تصويت داخلي جديد لحجب الثقة عن جونسون ودفعه للتنحي
عقب جلسة المساءلة الأسبوعية الساخنة والاستجواب المرهق للمشرعين على مدى ساعات من قبل رؤساء أهم اللجان في مجلس العموم البريطاني لجونسون بعضهم كان من أشد منتقديه في حزب المحافظين ناهيك عن سخر زعيم حزب العمال المعارض من الحكومة بوصفها ( خفيفة الوزن ) والذي اثار ضحك وسخرية الكثيرين بمن فيهم بعض حلفاء جونسون زادت وتوثقت احتمالات مغادرته رئاسة الحكومة والحزب
رغم الضغوط المتصاعدة على جونسون وسلسلة الاستقالات المتتالية بقي متشبث بالمنصب ومتمسك بالسلطة محاولا اظهار صلابة موقفه في التصدي للدعوات المطالبة له بالتنحي وهو يكرر قوله ان آخر شيء تحتاجه الدولة هو إجراء انتخابات جديدة
الا انه على وقع الاستقالات المؤلمة اضطر أخيرا حفظا له ولكرامته الى اعلان استقالته يوم الخميس الماضي من الحكومة ومنصب رئاسة حزب المحافظين ورحيله بعد عجزه الكامل عن تحويل مسار السفينة وتهدئة العاصفة على ان يبقى رئيسا للوزراء حتى الخريف المقبل ويستمر في منصبه قائدا للحزب إلى حين انتخاب زعيم جديد في هذا الصيف حيث يحل الفائز محله في تشرين الأول القادم
هنالك عدت أسباب وعوامل ومشاكل أدت إلى تصدع صفوف حكومة جونسون الذي يعاني بالأساس من تداعيات فضيحة الحفلات في داونينغ ستريت التي أقيمت في مقر الحكومة خلال مرحلة الإغلاق التام إبان جائحة كورونا والتي أفلت فيها قبل أسابيع فقط من تصويت على سحب الثقة الذي قرره نواب حزبه المحافظ كما أدى خروج النائبين الأخيرين الى تنظيم انتخابات تشريعية فرعية تكبد المحافظون بنتيجتها هزيمة مدوية جاء ذلك فيما كان الحزب يسجل نتائج سيئة جدا خلال انتخابات محلية أخرى
يضاف إلى ذلك وجود قضايا أخرى ذات طابع جنسي في البرلمان حيث أوقف نائب يشتبه في أنه ارتكب عملية اغتصاب وأفرج عنه بكفالة منتصف حزيران واستقال آخر في نيسان لأنه شاهد فيلما إباحيا في البرلمان على هاتفه النقال وحكم على نائب سابق في أيار بالسجن 18 شهرا بعد إدانته بتهمة الاعتداء جنسيا على مراهق في الخامسة عشرة
اما الحرب الأوكرانية فثد كانت بمثابة النقطة السوداء في ملف جونسون على الصعيد المحلي سواء بين نواب حزبه أو في أوساط الرأي العام البريطاني حيث كان عامل التعب من الحرب يطغى بعد أن طال امد النزاع واستفحلت أزمة غلاء المعيشة وتزايدت تداعيات فضيحة بارتي غيت ومن اللافت هنا ايضا إن القادة الفرنسيين والأميركيين كانوا يعتقدون أن مواقفه بخصوص أوكرانيا هي مجرد عرض عضلات وكذلك بعض المسؤولين الأوروبيين كانوا لا يستسيغون كلامه الحاد الذي كان يتفوه به ووزيرة خارجيته ليز تراس بخصوص أوكرانيا
تجدر الإشارة إلى ان معهد يوغوف أجرى استطلاع للرأي جاءت نتائجه أن 69 % من الناخبين البريطانيين يرون أن على جونسون الاستقالة ويرى 54 % من الناخبين المحافظين أن على رئيس الوزراء مغادرة منصبه
بعيدا من عناوين الأخبار والمجاملات السياسية وبموضوعية كاملة لم يكن التواصل الودي بين جونسون والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حميم وصادق عندما التقى الزعيمان على هامش اجتماعات قمة دول مجموعة السبع الاقتصادية G7 في بافاريا خاصة وان الكلام الذي دار في حلقات الدبلوماسيين الأوروبيين هو أن جونسون كان قد سخر من ماكرون بعد تعبيره عن اهتمامه بفكرة الرئيس الفرنسي تشكيل تجمع سياسي أوروبي جديد يكون أوسع من الاتحاد الأوروبي ويمكن أن يضم المملكة المتحدة وهنالك مواقف مشابه مع بعض قادة الاتحاد الأوروبي والمسؤولين الدوليين
على المستوى العالمي أصبح جونسون كالبطة العرجاء مكشوف ولا تأثير له في الساحة الدولية وبين الزعماء العالميين وهم على دراية كاملة بما يواجهه في الداخل رغم ما يقدمه لإظهار صفاته القيادية من خلال سفراته وحضوره القمة الماراثونية لدول الكومنولث في رواندا والمؤتمرات في ألمانيا واسبانيا والتي كان يتمنى أن تعزز وضعه على المستوى الداخلي ( عندما يواجه رئيس الحكومة المتاعب في الداخل فمن النادر أن ينجح في الإفلات منها عبر السفر إلى الخارج )
خلال الأشهر القليلة الماضية وجهت عدة انتقادات حادة اتهمت جونسون بعدم الكفاءة والعناد المفرط إضافة الى خداعه الشعب البريطاني بشأن الحالة الحقيقية للاقتصاد حيث اعتبر سياسي فاشل لا يصلح للحكم بسبب سوء إدارته وفرديته وانتهازيته وتقلباته وهو ما جعله يعيش مستقبل غامض يكتنفه الشكوك والعزلة والفشل الى ان انتهى بشكل مأساوي كان هو المتسبب الأول فيه دون اي مراعاة منه لمقتضيات المرحلة او عواقب الأمور فكما تدين تدان والجزاء من جنس العمل
mahdimubarak@gmail.com