حسين الرواشدة - سؤالان اثنان يطاردان الإنسان في عالمنا العربي (وبلدنا أيضا)، وفي كل مرة يحاول الإجابة عنهما، يكتشف أن الإجابة كانت خاطئة، أو غير مكتملة على الأقل، ثم يعود لطرحهما من جديد، لا سيما عندما تشتد الأزمات، وتتراكم الخيبات والاختناقات، السؤالان هما: من نحن؟ ومن أنتم؟
تحت: من نحن؟ تناسلت أسئلة كثيرة: سؤال الدولة والهوية، سؤال الهدف والمصير، سؤال الحرية والكرامة.. وسؤال الدين والوطنية، أما الإجابات فما زالت مخاضاتها مستمرة في كل أنحاء وطننا العربي، خذ مثلاً الاشتباكات الحاضرة بين الإسلامي والعلماني، بين الديني والمدني، بين الديمقراطي وغير الديمقراطي.. والديموغرافيا والجغرافيا، وهكذا.
هذه المخاضات- بالطبع – تبدو مسألة طبيعية ما دمنا نتحدث عن مرحلة اكتشاف الذات أو البحث عنها، والتعرف عليها، وسنحتاج لسنوات – ربما تطول – حتى نتوافق على ما يلزمها من إجابات صحيحة.. تماما كما نحتاج لسنوات لنحسم إجابات أسئلة أخرى معلقة منذ قرون، مثل سؤال الدين والعلم والتحضر، والدولة والمرأة والديمقراطية.. الخ.
وإذا كان سؤال: من نحن؟ انطلق – في سابقة في تاريخنا – من عمق الوعي الشعبي، فإن سؤال: من هم..؟ أيضا، انطلق من ذات الأرضية والمكان، لكنه توجه نحو كل من كان يشكل علامة “استفهام” بالنسبة للشعوب، توجه نحو النخب الحاكمة، والنخب الحارسة، نحو المؤسسات الوطنية وهياكلها، والأهم نحو “الآخر” الأجنبي.
كان- بالطبع – سؤالاً مزلزلاً، ومليئاً بهواجس البحث عن تركة الماضي الثقيل، والحاضر القائم، والمستقبل الذي ما زال غامضاً.. من أنتم أيها النخب، ومن أنتم أيها القائمون على شأننا، ومن أنتم أيها “الممسكون” بقرارنا وحياتنا.. ومن أنتم أيها الخارجون من بلادنا والعائدون إليها بلا استئذان؟ ماذا فعلتم بنا، أو من أجلنا، وماذا تريدون منا، ولماذا تصرون على الاستهانة بنا، وعدم السمع لأصواتنا؟
الذين رددوا هذين السؤالين كان أغلبهم من جيل “الشباب”، هؤلاء الذين فتحوا أعينهم على “الآباء” المهزومين، والبلاد المنهوبة، والحريات الغائبة التي “تلمع” فيما وراء البحار، آنذاك لم يكن أمامهم سوى الانتساب لحزبي “الطرب” أو “اللعب” أو الجلوس خلف شاشات “الإنترنت” للبحث عن التسلية والترفيه، أو الهروب من الواقع البائس إلى العالم الافتراضي الجميل.
الآن، هؤلاء الشباب ذاتهم الذين فجّروا سؤاليّ: من نحن؟ ومن أنتم؟ تغيروا تماما، غادروا منصات الفرجة، وتعلموا من دروس العالم التي وفرتها لهم ثورة الاتصال، وحين عجزوا عن انتزاع الإجابة عن أسئلتهم من أفواه “أصحاب” السلطات الأبوية والسياسية، لم يجدوا أمامهم من طريق سوى كسر عصا الطاعة، والبحث عن إجابات أخرى لصناعة أمل جديد.
ما نشهده من فوضى في مجتمعاتنا، الآن، يبدو صادما، لكنه يبدو، أيضا، طبيعيا ومفهوما، سواء في سياقات التحولات والولادات التي يشهدها العالم، أو الأخرى التي أصابت مجتمعاتنا، لكن على الرغم مما يرافقها من آلام ومخاوف، فقد تنبه الشباب في بلادنا العربية إلى “المفتاح” الذي سيمكنهم من الدخول إلى بيتهم “الوطني” الذي خرجوا أو أخرجوا منه، ليعيدوا تأثيثه من جديد.
أعرف، بالطبع، أننا ما نزال في مرحلة “البحث” عن مشتركات وطنية (دولة وهوية جامعة إن شئت) نستطيع أن نتوافق عليها “لتأثيث” هذا البيت من جديد، ثم أن ندافع عنها بعيدا عن الصراعات في “بازارات” السياسة، وتجاذبات الغنائم، ومحاصصات “الفرز” وهجمات الإقصاء.
أعرف أيضا أننا بحاجة إلى “رؤوس” قادرة على توجيه هذا الجسد، سمها نخبا أو كتلة تاريخية، أو وسائط سياسية، وأن تكون جاهزة لدفع ما يلزم من أثمان وتضحيات، وانتقالات آمنة من الحواضن الاجتماعية السائدة إلى حواضن الدولة والقانون والتمدن، لكن ما أعرفه- أيضا – حدّ اليقين أن الشعوب العربية بدأت تتلمس طريق “الكشف” عن ذاتها وحريتها وكرامتها، وأنها لن تعود للوراء.